العدد 1681 /17-9-2025

عمر عبد الرازق


يحتفي اليمين المتطرف بانتصاراته الزاحفة وأبواقه العالية من الولايات المتحدة "أرض الأحرار" عابراً المحيط الأطلسي إلى أوروبا "الاستنارة" مؤذناً بعالم أكثر وحشية مما نعيشه الآن.

ليس صحيحاً أن صعود اليمين المتطرف هو ردة فعل للصوابية السياسية و"جحافل المهاجرين" وتهديدهم للثقافات الأصلية لهذه الشعوب، لأن الحقيقة الدامغة هي أن المهاجرين وإن تزايدوا يظلون أقلية ضئيلة في هذه المجتمعات، تقبل ما لا يقبله من ينكرون عليهم حقوق المساواة، وتعيش في الهامش الاقتصادي الذي يرفضه "البيض الأصليون" وتنقذ الرفاه الاجتماعي بما تقدمه من قوة عاملة رخيصة للمرافق الحيوية.

لكن صعود هذا اليمين هو بحد ذاته تأكيد لفشل سياسات الجشع الاقتصادي التي تبنتها مؤسسات الحكم الغربية ولما كرز به مفكرون وساسة غربيون على مدى عقود ومنذ سقوط المعسكر الشرقي بنهاية الأيديولوجيا وفتح الباب أمام رأسمالية متوحشة.

كان خطاب نهاية الأيديولوجيا يشدد في ظاهره على أن المصالح هي ما يتبقى، وأن العالم الجديد ينبغي أن يقوم عليها، لكنه كان يضمر إقصاء، أو بالأحرى، إخصاء كل التيارات الأخرى ما عدا الرأسمالية بصيغتها النيوليبرالية التي تجعل من العالم مجرد سوق للربح ومن البشر مجرد مستهلكين، ليسير العالم باسمها في طريق بلا رجعة. ومن ثم يتعين على كل التيارات والأيديولوجيات الأخرى، سواء اليسارية أو الليبرالية المحافظة، أن تتوارى إلى الهامش.

هذا ما حدث به المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما عندما اعتبر الرأسمالية نهاية التاريخ ثم نقطة، ولا شيء. ولسوء الحظ التهمت تيارات "الطريق الثالث" متمثلة في بيل كلينتون وتوني بلير ذلك الطعم فأقصت اليسار لتبقى الأحزاب التي تمثله مفرغة من أي أيديولوجيا، وتظل الجماهير الغفيرة من دون وعي حقيقي بمن يسبِّب معاناتها. كتابات أكاديمية كثيرة روّجت على مدى العقود الماضية فكرةَ أن المواطن الفرد يعتنق بفطرته البراغماتية ولا يهمه من يقدم له الخدمة سواء كان يسارياً أم يمينياً، لكن وميض النار ظل تحت الرماد ليندلع الآن في شكل ذلك الصعود اليميني العنصري، وتنتهي نهاية الأيديولوجيا.

إن خروج 150 ألف بريطاني في مظاهرة لليمين المتطرف، وهي الأكبر لأنصار هذا التيار في التاريخ البريطاني، لحدث جلل. ذلك أن بريطانيا وإن عرفت اليمين المتطرف منذ الستينيات، وفي الغالب كان ردة فعل على وجود الآخر/ الأجنبي الذي استقدمته بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية 1945 لإنقاذ اقتصادها، لكنه ظل دائماً تياراً مشيناً وهامشياً ولم يغير في تركيبة المؤسسة البريطانية شيئاً. لم أعرف بريطانياً واحداً على مدى خمسة وثلاثين عاماً في هذه البلاد، قدم نفسه على أنه يميني متطرف، كان اعتراف كهذا يعني المجاهرة بالعنصرية، وهو أمر تأباه الذائقة البريطانية ولا يعلنه حتى العنصريون أنفسهم.

في حشده للجماهير الغاضبة، من أميركا إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا، يستدعي اليمين المتطرف رموز "موروث العنف" في هذه المجتمعات ليخلق عدواً يستحق القتال، تماماً كما فعل الفاشيون والنازيون، إذ لا بد من آخر، نحاربه ونقصيه لكي يتحقق وجودنا وتنتصر هويتنا. فرموز الكونفيدرالية التي حاربت أميركا لينكولن هي المفضلة للرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يستغل مظلومية فقراء شعبه وعنصرييه بالتحريض على الأجانب، والعلم الذي يحمل صليب "سان جورج" في بريطانيا هو تجسيد للهوية لتمييز البريطانيين البيض عما عداهم، والمهاجرون من السود والعرب والمسلمين هم من يسرقون أقوات البيض الأصليين ونساءهم.

في صعود الفاشية والنازية، الذي قاد إلى أكبر كارثة عالمية صنعتها أوروبا التنوير، كان لا بد من التفوق الآري وكان لا بد أن يساق اليهود الى المذبحة بوصفهم أصل الشر لمأساة ألمانيا الاقتصادية، أما اليمين المتطرف المعاصر فقد استبدل اليهود بالمسلمين، يستدعيهم "كبش فداء" ومبرراً للتردي الاقتصادي والتهميش الطبقي الذي خلقته سياسات النيوليبرالية.

لكن هذا الاستدعاء لم يأت من فراغ، بل صنعته مؤسسات الحكم الغربية نفسها في سياق إمبرياليتها الجديدة. فعلى مدى العقود الماضية، ومنذ نهاية الحرب الباردة، كان العرب والمسلمون هم الأكثر استهدافاً من عنف الجيوش الغربية، وعلى أيدي حكومات صنفت في اليمين تارة وفي اليسار تارة أخرى. من غزو أفغانستان إلى غزو العراق إلى قصف ليبيا واليمن والصومال ولبنان وإيران وأخيراً الإبادة الفلسطينية التي تتم برعاية أميركية كاملة وعلنية وتواطؤ معظم أوروبا، كان العربي والمسلم هو التجسيد للهدف الذي ينبغي قتله، أو الآخر الذي يزاحمنا على هذه الأرض ويأبى التحضر.

هذه الحروب شارك فيها توني بلير اليساري مع جورج بوش الجمهوري وأكملها باراك أوباما وجو بايدن الديمقراطيان ويرعاها ترامب الباحث عن نوبل للسلام، كانت عناوين رئيسية لأجيال كاملة في هذه البلاد (هل من قبيل المصادفة أن يزين وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسث جسمه بوشوم "كافر" و"صليب القدس"، بعد مشاركته مع جيش بلاده في غزو العراق واحتلاله؟).

ما رعته المؤسسة الغربية من عنف ضد شعوب عديدة لكسر إرادتها وسحقها سياسياً واقتصادياً، يرتد إليها فائضه الآن ويهدد مجتمعاتها، ولعل اغتيال اليميني المتطرف تشارلي كيرك في ولاية يوتا مجرد تذكير يضاف إلى المحاولات التي استهدفت ترامب ورموزاً سياسية من الحزبين الرئيسيين بأن الخطاب اليميني المتطرف لترامب وأنصاره يمكن أن يشعل أميركا فعلاً لا مجازاً.

ولسوء الحظ لا يبقى ما يحدث في أميركا ترامب في أميركا، فرموز معسكره يصرون على نقل دعوتهم إلى أوروبا لتأسيس وحدة اليمين المتطرف عبر الأطلسي. هكذا نصب الملياردير الأميركي إيلون ماسك نفسه حارساً على قيم المجتمع البريطاني، في أعرق الديمقراطيات، حين طالب في رسالته لمتظاهري اليمين المتطرف "بالكفاح حتى الموت.. فالعنف قادم إليكم لا محالة". الكفاح ضد من وقتال من؟ ضد "خطر الاغتصاب والقتل وتدمير طريقة حياتكم". قبل ماسك، كان دي جي فانس نائب الرئيس الأميركي يدعم أنصار اليمين المتطرف من "حزب البديل" في ألمانيا ونايجل فراج في بريطانيا في لقاءات رسمية، وكانت ردود البلدين على هذا التدخل تأتي على استحياء خوفاً من عصا السيد الأميركي، لكن الثمن هذه المرة قد يكون استقرار أوروبا بأكملها، أوروبا التي أزهقت أرواح عشرات الملايين من سكانها والعالم حين سمحت لليمين المتطرف بالصعود إلى السلطة ذات يوم قبل اثنين وتسعين عاماً.