العدد 1681 /17-9-2025

حمّور زيادة

زار مدير جهاز المخابرات السودانية، الفريق أحمد مفضل، في مارس/ آذار الماضي، مباني التلفزيون القومي عقب تحريره من قبضة قوات الدعم السريع. صرّح الرجل الذي عينه الرئيس السابق عمر البشير والياً على ولاية جنوب كردفان قبل شهور من سقوط نظامه "من يكسب حرب الاعلام يفُز بالمعركة". وهذه عبارة مهمة تساعد على قليلٍ من فهم ما يحدُث في الحرب السودانية. أما محاولة الإحاطة وادّعاء الفهم الكامل فربما هي إلى الأسطورة أقرب.

في أيام الحرب الأولى، بينما القتال محصور في مناطق محدّدة في الخرطوم، كان قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، يتحدّثان مباشرة لأجهزة الإعلام. للأمانة، كان قائد الجيش أصدق من قائد المليشيا ومن كل الخبراء العسكريين والمحللين الإسلاميين، إذ سمّى الحرب "الحرب العبثية". وكنتُ حاضراً في قناة ضيفاً عليها عندما دخل علينا قائد الجيش على الهواء وسمعته يقول "لا أحد يعرف متى تنتهي الحرب. يمكنك أن تبدأ الحرب، لكنك لا تعرف متى تنتهي". على الأقل، كان الرجل الذي أدمن الانقلاب على حلفائه صادقاً في شيء. أما بقية الراكدين في الإعلام فكانوا يتحدثون عن نهاية المعارك. وعن تمشيط الجيش للعاصمة لمطاردة بقايا فلول عصابات التمرّد المدحورة. كان ذلك يقال في وقتٍ ينشر إعلام "الدعم السريع" أخبار انتصارات وإسقاط طائرات.

بعد مرور ارتباك الأيام الأولى، إذ يبدو جلياً أن كل طرفٍ كان يؤمن أنها معركة الساعات الست، ثم يرجع ليحتفل بالنصر. لكن النصر تأخّر، فبدأت موجات النهب الواسعة، التي كانت تحدث على استحياء في الأيام الأولى، لكنها الآن كشفت عن وجهها. كان جنود "الدعم السريع" يغيرون على بيوت المواطنين، ينهبونها، يهينون أهلها، ويصوّرون ذلك كله وينشرونه. هذه استراتيجية الرعب. وقد نجحت الاستراتيجية الإجرامية في إرهاب سكان العاصمة، فحدثت موجة النزوح الكبرى في العالم، هرباً من الانتهاكات المقبلة.

رغم ذلك، ظلّ إعلام الجيش يؤكّد يومياً على الانتصارات المتوالية. وأن التمرّد انهزم، وإن هي إلا أيام، أو أسبوع إلى أسبوعين، وتنتهي الحرب. ثم جاءت صدمة دخول "الدعم السريع" ولاية الجزيرة، والانسحاب الغريب للجيش، وما تلا ذلك من مذابح وجرائم. وهي مذابح وجرائم حرصت المليشيا على توثيقها ونشرها بفخر. مع تهديداتٍ كثيرة.

على الجانب الآخر، امتلك الجيش ومن معه من حلفاء في الحركة الإسلامية آلة إعلامية قوية ومجرّبة، ومحمية أمنياً. ارتباك ما بعد احتلال ولاية الجزيرة جعل هذه الآلة الإعلامية تنقسم ضد قائد الجيش، بل تطرّف بعضهم ليصم كل قادة الجيش بالخيانة والتواطؤ مع "الدعم السريع"!، وهي التهمة الموجّهة إلى القوى المدنية السياسية. لكن هذه الآلة سريعاً ما عادت إلى تماسكها، وربما يكون الفضل في ذلك يرجع إلى المليشيا الإسلامية المعروفة باسم "لواء البرّاء بن مالك" (أخيراً، قرّر من يديرونها ترفيعها إلى فيلق!)، فقد استخدمت أساليب الحركة الإسلامية الإعلامية التي جوّدتها في حقبة التسعينيات السوداء. واستمرّت الأساليب نفسها بعد تقدّم الجيش والقوات المتحالفة معه في العاصمة الخرطوم. وبدأت فيديوهات الانتقام تنتشر. والقتل خارج القانون يوثّق ويبث بفخر. كانت تلك أيضاً رسالة إعلامية.

وبلغ من شدّة التركيز على الإعلام والفائدة المرجوّة من المعلومة إلى فوضى من الشائعات تجعل التحقّق من حدثٍ واحدٍ أمراً مُجهداً، ينفق أياماً في البحث. ومع موجات الأخبار التي لا تتوقف من كل الجهات، يجد المتلقّي نفسه وسط تراشق إعلامي عدواني، فالجميع خونة، وعملاء، والجميع ضد الجميع. أفرط المتقاتلون في استخدام الإعلام سلاحاً حتى تسبّبوا في مذابح جماعية للحقائق.

 

كما أنتجت عسكرة الإعلام حالة من المكارثية، تستجوب كل جملة وتحقّق مع كل خبر، فهذه القناة لم تصف "الدعم السريع" بالمليشيا. وتلك القناة قالت "حكومة تأسيس"، ولم تقل "ما تسمّى حكومة تأسيس"، ولماذا نشرت هذه القناة هذا الخبر وماذا تستفيد منه حتى لو كان حقيقياً؟. ... اتفق الجميع على اتخاذ الإعلام سلاحاً. لكنهم جميعاً يصرخون غضباً من استخدام الآخرين له.

قبل ساعاتٍ من كتابة هذا المقال، نُشر فيديو منسوب لـ"الدعم السريع"، يعذّب فيه مسلحٌ امرأة مصلوبة. قديماً لم تكن المليشيا تعارض هذه الفيديوهات، لكن أتباعها في حكومة تأسيسٍ كان لهم رأي آخر، فأعلنوا إنكار الجريمة، في محاولة فاشلة لئلا تلوّث جرائم "الدعم السريع" ستراتهم الزرقاء الغالية.