كمال درويش

تعكس زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للولايات المتحدة الأميركية الشهر الماضي الكثيرَ من التناقضات؛ فرغم مشاعر الصداقة فإن برنامج عمل ماكرون ولهجة خطابه كانت تقريباً متعارضة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى مع ترامب.
ولكن قيادة ماكرون تتعرض لتحدٍّ أكبر، علماً بأن كيفية إدارته لذلك التحدي قد ترشدنا لكيفية تحقيق تقدم في ما يتعلق بالسياسات الليبرالية الديمقراطية.
لقد تكلم ماكرون بوضوح وهو يخاطب الكونغرس الأميركي باللغة الإنجليزية، حيث دافع بقوة عن نظرة عالمية ذات بعد دولي، كما دعا إلى إنشاء مؤسسات دولية أقوى وإعادة التزام نظام تجارة عالمي قائم على أساس القواعد والأحكام، بالإضافة إلى تبني العولمة بشكل عام.
وفي ما يتعلق بإيران؛ أعاد تأكيد الحاجة للمحافظة على الاتفاق النووي المبرم عام 2015، الذي انسحب منه ترامب مؤخراً؛ وإن كان قد دعا في خطابه إلى اتفاقيات مكملة تتعلق بالمواضيع التي لم تغطها الاتفاقية الحالية.
لقد أشار ماكرون كذلك إلى أنه سيسعى لإطلاق حملة على المستوى الأوروبي لانتخابات البرلمان الأوروبي لسنة 2019، وبوصفه ديمقراطياً فإنه يؤمن بأن تعزيز الاتحاد الأوروبي يجب أن يسير بالتوازي مع تطوير فضاء سياسي حقيقي أوروبي.
وفي واقع الأمر؛ فإن ماكرون نفسه قرر أن يقفز للمجهول من خلال عالم «السياسات الجديدة» في الغرب، وهو عالم لم يعد يعكس -بشكل كامل- التنافسَ بين أحزاب كبرى من يمين الوسط ويسار الوسط؛ ولكن: هل انقضى زمان الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين بسبب السياسات الجديدة؟
سيكون خطأً أن نصف ماكرون -الذي عمل وزيراً في الحكومة الاشتراكية لسلفه فرانسوا هولاند- بأنه ببساطة ينتمي إلى الوسط؛ فرغم أنه تحرك في اتجاه الوسط فإنه لم يلتحق بأي من أحزاب الوسط التقليدية الصغيرة، ولكنه عوضاً عن ذلك أنشأ حركة خاصة به.
لقد وصف ماكرون منذ البداية تلك الحركة -التي أطلق عليها اسم «إلى الأمام»- بأنها ليست يمينية ولا يسارية، متجنباً مصطلح «الوسط»؛ واليوم هو يقول إن حركته على اليمين وعلى اليسار، ما يعكس رغبته في كسب الناخبين التقليديين ليسار الوسط ويمين الوسط.
لو تلاشى الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين فإن السؤال المطروح هو: ما الذي سيُستبدل به؟ ومع وجود العولمة في قلب الجدل السياسي بمعظم البلدان؛ فإن الجواب يبدو أنه قد يكون الانقسام بين القوى العالمية والقوى الضيقة التفكير.
وطبقاً لهذا التفسير؛ فإن ماكرون يقود حركة مؤيدة للعولمة ومؤيدة لأوروبا، وأولئك الذين يعارضونه -سواء أكانوا على اليمين أم على اليسار- يرتبطون بمعارضة مشتركة للانفتاح الاقتصادي. وفي واقع الأمر؛ فإن مَن هم في أقصى اليمين وأقصى اليسار يبعثون برسائل اقتصادية متشابهة.
وفي الوقت نفسه؛ فإن أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط السياسية الحالية -في فرنسا وفي طول الغرب وعرضه- عادة ما تضم مجموعات ذات توجه عالمي، وأخرى يتملكها الشك في العولمة.
ولو أصبحت العولمة هي الانقسام الانتخابي الرئيسي بالدول الغربية؛ فإن المنطق يقتضي احتمالية انقسام هذين المعسكرين، بحيث يقومان بتشكيل عائلات سياسية جديدة. ومع اعتقادي أنه ستكون هناك حركة في ذلك الاتجاه؛ فإن من غير المرجح أن يختفي الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين.
إن هذا يعني أنه في السنوات المقبلة سيضطر ماكرون إلى أن يتحالف بشكل أوثق مع يمين الوسط أو يسار الوسط. إن الظروف الخاصة التي مكنته من الفوز بانتخابات عام 2017 (أي يسار وسط فقد مصداقيته ومرشح يمين وسط فقد أهليته بسبب الفضائح)؛ لن تتكرر مجدداً، ما يعني أن على ماكرون أن يصبح قائداً عالمياً صاحب توجه يساري، أو قائداً عالمياً صاحب توجه يميني.
إن واحداً فقط من تلك الخيارات يبدو خياراً يمكن الحفاظ عليه؛ فالسياسات التقليدية ليمين الوسط لن تتوافق بسهولة مع النزعة العالمية القوية. ولو تم دعم العولمة بأبعادها المختلفة عبر أغلبية شعبية؛ فإنه يجب أن تصاحبها سياسات اجتماعية عصرية، تقدم المساعدة الفعالة لمن يحتاجها. وفي وقت يستمر فيه الاضطراب الاقتصادي؛ فإن هذا سيصبح أكثر أهمية.
إن الانفتاح الاقتصادي يتطلب تضامناً اجتماعياً، وهذا لا يعني حماية وظائف محددة من المنافسة التجارية أو الابتكار التقني، بل يعني مساعدة الناس في التأقلم مع التغير المستمر، وذلك بتقديم الموارد اللازمة لجميع المواطنين مثل التعليم والرعاية الصحية التي يمكن الحصول عليها بسهولة، والدعم خلال هذه المرحلة الانتقالية.
وباختصار؛ يجب أن يرافق أيَّ موقف شعبي مؤيد للعولمة عقدٌ اجتماعي جديد -بدعم من الموارد العامة- يحظى بموافقة أغلبية كبيرة، وإلا فإنه سيكون من الصعوبة مقاومة دعوات القومية الجديدة.
وبينما يُكمل ماكرون إصلاحات الضرائب وسوق العمل الضرورية التي بدأ بها فعلاً؛ فإن عليه التعامل مع هذا التحدي، وفي ظل هذا التحول في النموذج السياسي فإن الذين يفضلون الانفتاح سينتصرون على الأحادية القومية، فقط إذا تبنّوْا مقاربة عصرية للتضامن الاجتماعي كهدف رئيسي لهم.}