يحيى الكبيسي

ليس ثمة جديد في الجدل الدائر في العراق حول نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فهو مجرد مناسبة أخرى للكشف عن أزمة الدولة! لا يتعلق الأمر هنا بديمقراطية ناشئة تتلمس طريقها الصعب والطويل، بل بسياق قائم على مصفوفة أخطاء، وخطايا، لا يمكن لها أن تنتج غير الفشل. 
في عام 2005، وفي أول انتخابات برلمانية بعد الاستفتاء على الدستور، اعترضت جبهة التوافق العراقية حينها على نتائج الانتخابات، وتقدمت إلى المحكمة الاتحادية بدعوى تطعن في دستورية قانون الانتخابات الذي سلبها بضعة مقاعد، بسبب احتساب القانون للمقاعد على أساس المسجلين في السجل الانتخابي وليس على أساس العدد الكلي للسكان. وبدل أن تبتّ المحكمة الاتحادية بسرعة في طلب كهذا يتعلق بشرعية الانتخابات نفسها، وجدناها تماطل لمدة 16 شهرا لتقرر في النهاية بعدم دستورية هذا القانون، لأنه ينتهك أحكام الدستور الصريحة، التي احتسبت عدد المقاعد على أساس السكان أولاً، والتي قررت أيضاً بطلان أي نص قانوني يتعارض معه. ولكنها في الوقت نفسه قررت أيضاً أن هذا الحكم بعدم الدستورية «لا يمس الإجراءات التي جرت بموجبها انتخابات المجلس النيابي الحالي»! 
وفي عام 2010، كان للمحكمة الاتحادية مرة أخرى حضور في الانتخابات، بعيداً عن دورها المقرر دستورياً بالمصادقة على نتائج الانتخابات. فبعد توالي النتائج الأولية للانتخابات، وتيقن أحد أطرافها بعدم حصوله على المركز الأول فيها، توجه إلى المحكمة الاتحادية مطالباً إياها بتفسير المادة الدستورية التي تصف الطرف الذي يكلف بتشكيل الحكومة، وكان رد المحكمة السريع على غير العادة (قدمت الدعوى يوم 21/3/2010 وجاء رد المحكمة يوم 25/3/2010) بأن الكتلة النيابية الأكثر عدداً ليست هي الكتلة الفائزة في الانتخابات، بل الكتلة التي تتشكل بعد الانتخابات! 
وحيث إن تشكيل الكتلة الأكبر في هذه الانتخابات تأخر كثيراً، وهو ما يتعارض مع التوقيتات الدستورية المتعلقة بعقد الجلسة الأولى للبرلمان، وانتخاب رئيس المجلس ثم رئيس الجمهورية، وأخيراً تكليف مرشح الكتلة الأكثر عدداً، ومن ثم اضطرار الجميع إلى جلسة مفتوحة للبرلمان، تقدم بعض الناشطين بدعوى للمحكمة الاتحادية للبت في شرعية الجلسة المفتوحة. في هذه المرة تأخرت المحكمة الاتحادية أربعة أشهر قبل البت في الدعوى، بعد ان حسمت الكتل السياسية ترشيحاته! 
في ظل هذه الإشكاليات الدستورية والقانونية، كان رئيس الجمهورية صاحب الصلاحية الحصرية في «ضمان الالتزام بالدستور» بعيداً عن المشهد تماماً، ومن يراجع أداء رؤساء الجمهورية المتتالين سيكتشف بوضوح أنهم تعاملوا مع هذا المنصب في سياق المتطلبات الحزبية والفئوية أكثر منه في سياق متطلبات المنصب نفسه! 
لقد عمد الأمريكيون بعد احتلالهم العراق إلى اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات، التي لم يكن مفكراً فيه في العراق قبل ذلك! ليس من خلال فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية وحسب، بل من خلال اعتماد فكرة الهيئات المستقلة التي عمدت سلطة الائتلاف المؤقتة إلى تشكيلها تباعاً عبر أوامر وتعليمات، أو من خلال قانون إدارة الدولة. وقد أفرد الدستور العراقي لاحقاً لهذه الهيئات المستقلة مكانة خاصة، عندما عدها واحدة من السلطات الاتحادية بعيداً عن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. إلا أن هذه الاستقلالية تم إنكارها مبكراً، ولم تستطع البنى الذهنية للنخب السياسية العراقية أن تتسق مع هذه الفكرة؛ بداية عبر محاولات الهيمنة السياسية عليها، ثم عبر قرار للمحكمة الاتحادية العليا جرّد هذه الهيئات المستقلة من صفة الاستقلالية وجعلها تابعة للسلطة التنفيذية! ثم عبر قرار ثان وأد مفهوم الاستقلالية تماماً عندما قررت أن مفهوم الاستقلالية لا يعني عدم الانتماء للأحزاب، إنما المقصود به أن هؤلاء «مستقلون في أداء مهامهم»! 
في ظل مقدمات كهذه، يبدو من الصعب التفكير أن مفوضية انتخابات تعتمد على مرشحين حزبيين، أو مرشحين لأحزاب، أن تدير انتخابات نزيهة وشفافة بأي حال من الأحوال، خاصة أن هؤلاء الأعضاء الذين سيشكلون «مجلس المفوضين» و«الدائرة الانتخابية» لديهم سلطة شبه مطلقة في ما يتعلق بالانتخابات. بداية من تشكيل مكاتب الانتخابات الفرعية على مستوى المحافظات، وصولاً إلى إعلان نتائج الانتخابات.
وبالتالي، فإن الأحزاب التي «يمثلها» أعضاء مجلس المفوضين ستحظى عملياً بقدرة كبيرة على التدخل في «إدارة» الانتخابات عبر السيطرة على هذه المكاتب من خلال «ممثليها»، بداية من الاستحواذ على منصب مدير المكتب وموظفيه، مروراً بالسيطرة على المراكز والمحطات الانتخابية عبر تعيين ممثلي هذه الأحزاب فيها، وانتهاء بالسيطرة على العمليات الخاصة بالعدّ والفرز! فضلاً عن أن سيطرة الأحزاب على مفوضيّة الانتخابات سيجعلهم «يتحكمون»، واقعاً، بالعملية الانتخابية كاملة. وبالتالي تبدو الاتهامات الموجهة إلى مفوضية الانتخابات، التي تسوقها الجهات التي أنتجتها وفق معاييرها أصلاً، غير مسوغة، وغير مفهومة تماما.
بموازاة هذه الوقائع، أعلن يان كوبيتش الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق في إفادة بمجلس الأمن يوم الثلاثاء 30 أيار 2018 أن ما سمّاه «الترهيب الفعال للناخبين بواسطة بعض التشكيلات المسلحة والتدخل السياسي» كانت حاضرة في الانتخابات الأخيرة، دون أن يسمي طبعاً هذه «التشكيلات المسلحة» لكي لا يغضب أحداً. وطوال الأشهر الماضية، كان مطلب إخراج هذه «التشكيلات المسلحة» مطلباً جوهرياً للكثير من الأحزاب والقوى السنّية، دون أن يخرج أحد  عن تواطئه وصمته، في ما يتعلق بهذه المسألة! والأهم هنا أن السيد يان كوبيتش، نسي كما يبدو أن يطلع مجلس الأمن على العلاقة العضوية التي تربط هذه «التشكيلات المسلحة» بقائمة انتخابية محددة، استطاعت أن تحقق مكاسب غير مسبوقة في مناطق انتشارها في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى بواسطة هذا الترهيب الفعال! 
في معرض تسويغ الرئيس الدكتور فؤاد معصوم لواقعة عدم الالتزام بالمدة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية في عام 2010، قال بأنها ليست أول قارورة كسرت في الإسلام. وهذه الكناية التي تستخدم أحياناً لتوصيف الانتهاكات، الصريحة أو الضمنية، لبعض أحكام الإسلام، تعكس وعي النخبة السياسية العراقية لمبدأ حكم القانون The Role of Low الذي يعد مبدأ أساسيا للدولة الحديثة وللديمقراطية.
ولعل مفردة القارورة نفسها تقدم توصيفاً فريداً لحقيقة حكم القانون في العراق الحديث، ملكياً وجمهورياً، دكتاتورياً وديمقراطياً مفترضاً، وهو أنه هش وقابل للكسر أولاً، وأنه لا إصلاح له إن انكسر، تماماً كما القارورة! ومراجعة سريعة لتاريخ كسر قوارير الدولة العراقية على مدى ما يقرب من مائة سنة من عمرها يوضح بجلاء استمراء هذا التكسير.}