نبيل البكيري

يتموضع حزب التجمع اليمني للإصلاح في قلب المعادلة السياسية اليمنية التعددية كإحدى أهم ركائزها على مدى 27 عاماً منذ تأسيسه في 13 أيلول 1990، باعتباره إحدى ثمار إعلان قيام الوحدة اليمنية في أيار 1990. تلك اللحظة مثلت بداية مسار التعددية السياسية والثقافية في يمن ما بعد الوحدة، وحتى انقلاب 21 أيلول 2014 الذي أعاد المجتمع اليمني عقوداً -إن لم يكن قروناً- إلى الوراء بإسقاط جمهوريتهم الديمقراطية التعددية. ويأتي حزب الإصلاح في مقدمة المجتمع اليمني الذي دفع ثمناً باهظاً جراء هذا الانقلاب، باعتبار أن الحزب كان هدفاً مباشراً ومعلناً، رغم أن الهدف الكبير للانقلاب كان الانقضاض على النظام الجمهوري بدرجة رئيسية. لكن إعلان منفذي الانقلاب أن حزب الإصلاح عدوّ لهم لم يكن سوى إحدى التغطيات المكشوفة لهدف الانقلاب الواضح والصريح في إسقاط الدولة والجمهورية، وإعادة حكم الإمامة الزيديّة بكل أبعادها السياسية والثقافية، ومترتباتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
وهنا وجد حزب الإصلاح نفسه في قلب معركة مكشوف الظهر منذ لحظة الانقلاب الأولى، بوصفه هدفاً للانقلاب وبعض الأطراف الأقليمية في آنٍ واحد، وباعتباره حاملاً سياسياً رئيسياً لثورة 11 شباط 2011، التي كان إنهاؤها هدفاً للانقلاب وربما لأطراف إقليمية كان لديها سوء تقدير لمآلات الصراع والحرب في اليمن.
صحيح أن «الإصلاح» أدرك ذلك باكراً، فاستطاع أن يتجنب جرّه إلى معركة خارج حدود وظيفته الحزبية والمدنية، لكن سقوط اليمن كله في أيدي منفذي الانقلاب لم يدع أمام الإصلاح خياراً إلا العودة إلى تصدّر مشهد المقاومة اليمنية من جديد، بعد أن أدرك أن المعركة ترمي إلى إسقاط الدولة والنظام الجمهوري معاً. لأن الإصلاح يرى أن الدفاع عن المجتمع ومؤسساته الحزبية والرسمية هي مسؤولية الدولة في المقام الأول، ومثل هذه الرؤية تتأتى في مجتمع وصل مراحل متقدمة من الوعي السياسي والمجتمعي لإدراك وظائف كل فرد وكيان داخل المجتمع، وليس في مجتمعات ما زالت تمثل الأمّية الأبجدية نسبة كبيرة فيها.
معضلة عاصفة الحزم
مثلت لحظة سقوط الدولة وجمهوريتها في أيدي مليشيات طائفية من أسوأ لحظات اليمنيين منذ إعلان قيام الجمهورية في 26 أيلول 1962، وكان سقوطها صبيحة 21 أيلول 2014 لحظة ذهول صادمة لليمنيين جميعاً، وقد دفعت هذه اللحظة بكل القوى الوطنية الواعية بخطر الإمامة وعودتها إلى البحث عن أي حليف لمساعدة اليمنيين في التخلص من هذه الكارثة السوداء والجائحة التي حلت على اليمنيين، بسبب تقصيرهم الكبير الذي أوصلهم إلى هذه اللحظة البالغة السوء.
اندفع الإصلاح وحيداً لتأييد قرار عاصفة الحزم من بين كل القوى السياسية المشاركة في حكومة الشرعية والتي ظلت على علاقة حتى بسلطة الانقلاب نفسه بصنعاء، فيما وجد الإصلاح نفسه وحيداً في تأييد قرار عاصفة الحزم دون أي ثمن يذكر في ما يتعلق بمكانته في قلب هذه المعركة المصيرية للمنطقة كلها.
وبمعنى آخر؛ رمى الإصلاح بكل ثقله في قلب معركة مصيرية دون حتى مجرد نقاش لكيفية سير هذه المعركة التي تحمّل شباب الإصلاح في الجبهات نصيبهم الأكبر منها في مقاومة الانقلاب، في حدود أدنى من الدعم والإسناد الذي لا يكاد يذكر، خصوصاً في موضوع العلاقة بين الإصلاح والتحالف العربي التي تكشف بوضوح أهداف التحالف غير المعلنة وغير الواضحة، من خلال عرقلة عمل الشرعية ومنع عودتها إلى عدن حتى الآن، وسعي أطراف في التحالف لإعادة نظام علي عبد الله صالح بإحيائه مجدداً نكايةً في الإصلاح كأحد مرتكزات ثورة 11 فبراير السلمية.
المأزق الديمقراطي الحزبي
يمتلك الإصلاح أكبر قاعدة حزبية شابة في المشهد السياسي اليمني، تكاد تكون شبه مغلقة على الطبقة الوسطى من المجتمع اليمني من متخرجي الثانويات والجامعات، وقد انضمت هذه القاعدة إلى هذا الحزب مؤملة فيه إخراج اليمن من وهدته السياسية التي تعثّر فيها على مدى العقود الماضية وحتى لحظة انطلاق ثورة 11 فبراير. وكان شباب الإصلاح العمود الفقري للثورة بجانب كل القوى الشبابية الحزبية الأخرى، بعد أن كانت تمضي في مسلسل المساومات السياسية مع نظام صالح على مدى عقود. يدرك شباب الإصلاح اليوم -أكثر من أي وقت مضى- أن ما وصل إليه اليمن من انتكاسة تاريخية إلى الوراء هو نتاج طبيعي لمنظومة سياسية عاجزة، ومقيّدة بحسابات لا علاقة لها بالسياسة كتدافع رؤى وتصورات أجيال في كل بنى العملية السياسية اليمنية بمختلف توجهاتها. وفي القلب من هذه البنى السياسية حزبهم «الإصلاح» الذي لم يشهد تغييراً قيادياً ديمقراطياً فيه منذ فترة التأسيس باستثناء من يغيبهم الموت، وهذا التكلس بات اليوم عاملاً كبيراً من عوامل الإعاقة السياسية لحزب الإصلاح الكبير والمنتشر على امتداد الخريطة الجغرافية والاجتماعية والثقافية اليمنية.
ثنائية الدعوي والسياسي
من الإشكاليات العميقة في بنية حزب الإصلاح وتكوينه دمج العمل الدعوي بالسياسي وعدم الفصل والتمييز بينهما في أداء الحزب، الذي تم تأسيسه باعتباره امتداداً للحركة الإصلاحية «الإسلامية» اليمنية. وبقدر أهمية هذه الخلفية الثقافية فإنها تعمل على إعاقة الأداء السياسي للحزب الذي يعاني عدم القدرة على التعاطي مع التحولات السياسية المتسارعة من حوله بمنظور سياسي براغماتي، وغلبة المنظور الدعوي على تفسيره لهذه التحولات بالقضاء والقدر وليس بالمنظور السياسي للتدافع والصراع. عدا عن هذا، أثرت الخلفية السلفية لبعض القيادات التنظيمية -وخاصة تلك التي تلقت تعليمها في السعودية فعادت بخلفية سلفية في التفكير والتصور- على تراجع أداء ليس فقط الحزب وإنما التيار الإسلامي كله، نتيجة منطق القطيعة والمفاصلة الذي يتبناه الفكر السلفي مع محيطه المجتمعي. وقد أثر ذلك بشكل كبير في أداء الإصلاح السياسي، ما سهل على قوى وأحزاب سياسية هامشية وصغيرة أن تلعب سياسياً بشكل أكبر من حجمها ودورها، وبات من الضروري اليوم للإصلاحيين حتمية التمييز بين الديني والسياسي، بعد كل هذه التجربة التي بددت جهوداً كبيرة من العمل العام خارج الأهداف السياسية المتوخاة من عمل سياسي، وهذا التمييز هو المقدمة لعمل سياسي أكثر وضوحاً وأشد تركيزاً على تحقيق الأهداف الكبرى للأمة اليمنية، بعيداً عن أي مسار آخر يُشغل ويشتت الجهود.
واليوم، اليمن الجمهوري الاتحادي المدني الديمقراطي هو الهدف الذي ينبغي التركيز عليه بأدوات واضحة، هي أدوات الفعل السياسي المجرد من أي ارتباطات أخرى وخاصة العمل الدعوي الذي ينبغي الاحتفاظ به خارج إطار الأداء السياسي، الذي ينبغي أن يظل عملاً سياسياً خالصاً بعيداً عن أي أدلجة تضع العوائق أمام مسار العمل السياسي الوطني العام، في فضاء ملغوم بالطائفية السياسية والكيديات الأيديولوجية المتكلسة. يجب أن يبقى العمل السياسي عملاً سياسياً بحتاً، كما هو الحال في تجارب إسلامية أخرى ناجحة ينبغي استلهام فكرتها كتجربة حزب العدالة والتنمية المغربي وحزب النهضة التونسي، فضلاً عن التجربة الأبرز اليوم في مسار النموذج الأنجح إسلامياً وهي تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.
لم تعد هذه الفكرة خيار ضرورة بقدر ما غدت اليوم قناعة لدى شريحة كبيرة من قواعد وقيادات التجمع اليمني للإصلاح، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة الكيديات السياسية من فرقاء السياسة قبل خصومها، الذين يتحركون بدينامية سياسية أكبر من الإصلاح المكبل بقيود كثيرة تحدّ من أدائه وحضوره السياسي العام.
يدرك الجميع اليوم -ومنهم الإصلاحيون قبل غيرهم- أن لا مستقبل لهم ولا لليمن كله دون استعادة الدولة والشرعية وإسقاط الانقلاب، وأن هذه المعركة مصيرية، ليس لليمن فحسب، بل للمنطقة كلها، باعتبارها معركة وجودية تحتم وحدة الرؤية والهدف، المتمثل في استعادة الدولة اليمنية المختطفة ووقف تمددات المشروع الإيراني الذي لن يتم إلا بوحدة الرؤية لدى شركاء المعركة جميعهم. لقد باتت ضروريةً اليوم المكاشفةُ والمصارحة مع شركاء المعركة بأن اليمنيين شركاء في المعركة وليسوا أتباعاً فيها، ومن ثم يتأتى السؤال عن ماذا تحقق خلال المرحلة السابقة من الحرب التي تقترب من انتصاف سنتها الثالثة على التوالي؟ وأين أخطأ الجميع وأين أصابوا؟ أما السير في الطريق دون رؤية أو خطة واضحة فليس سوى متاهة، ولن يسلم الجميع من مأساوية النهايات التي تنتظرهم في حال السير على نفس النسق الذي مضت فيه المعركة حتى الآن.}