العدد 1428 / 16-9-2020
بقلم: ياسين أقطاي

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اكتشاف حقل للغاز الطبيعي في البحر الأسود وهو أكبر اكتشاف للغاز الطبيعي في تاريخ تركيا، وقال إن تركيا ستدخل مرحلة جديدة بفضل هذا الاكتشاف.

وجاء هذا الخبر السار الذي قال عنه أردوغان إنه سيدخل تركيا مرحلة جديدة بعد انطلاق سفينة الفاتح للبحث السيزمي (بالموجات الزلزالية) في التاسع والعشرين من أيار الذي وافق ذكرى فتح إسطنبول، حيث تم اكتشاف حقل للغاز الطبيعي في البحر الأسود باحتياطات تقدر بـ 320 مليار متر مكعب من الغاز في آخر عملية تنقيب قامت بها هذه السفينة.

ظلت تركيا تابعة للدول الخارجية فيما يخص مسألة الطاقة، وكانت الميزة الوحيدة التي تتمتع بها في هذا الخصوص هو موقعها الاستراتيجي الذي يقع على خطوط إمداد هذه الطاقة.

وفي حقيقة الأمر، إن هذا الحجم لا يغطي احتياج تركيا سوى لستة أعوام فقط ولكنه جاء مبشرا بوجود حقول أكبر. وفي الأصل، فإن الحدث الذي تفوق أهميته هذه الحقول هو قدرة تركيا على القيام بمثل هذه العمليات في البحر الأسود بإمكانياتها الذاتية فقط، وإنجاز هذا الاكتشاف في شهر آب الذي يعد شهر انتصارات في التاريخ التركي يعكس معاني أعلى قيمة من الحقل المكتشف.

ظلت تركيا تابعة للدول الخارجية فيما يخص مسألة الطاقة، وكانت الميزة الوحيدة التي تتمتع بها في هذا الخصوص هو موقعها الاستراتيجي الذي يقع على خطوط إمداد هذه الطاقة. وعلى صعيد آخر، كانت تركيا على العلم والدراية الكاملين بوجود مثل هذه الحقول الحيوية في بحارها وأراضيها، إلا أنها لم تكن تمتلك القوة للبحث عنها أو اكتشافها، ولم تسفر الأبحاث التي تعتمد على المعدات المستأجرة من الخارج أو الأبحاث التي تقوم بها الشركات الخارجية عن أية نتائج رغم تكلفتها الباهظة. كما أن عدم وجود نتائج، من جهة، وارتفاع التكلفة، من جهة أخرى، كانا كفيلين بهدم الروح المعنوية.

وقد اتخذت تركيا أولى خطواتها الاستراتيجية في هذا المجال قبل ثلاثة أعوام، معتمدة على سفن البحث السيزمي (بالموجات الزلزالية) الخاصة بها، واستطاعت بفضل هذه الخطوة خفض تكاليف البحث والتنقيب بالإضافة إلى تمكنها من إجراء الأبحاث وعمليات التنقيب بالقدر الذي ترغب فيه، مستخدمة سفنها ومهندسيها وعناصرها الفنية المحلية. في الواقع، قامت تركيا بشراء ثلاث سفن للبحث السيزمي: الفاتح وياووز والقانوني، وبدأت عمليات التنقيب المتواصلة في البحرين الأسود والأبيض المتوسط، وقد حصدت النتائج منذ اللحظات الأولى.

وعلينا أن نتوقف عند هذه النقطة تحديدا لنشير إلى ملحوظة هامة بخصوص تركيا: فقد استطاعت أن تنتقل من المرتبة 37 اقتصاديا على مستوى العالم إلى المرتبة 17 لتصبح بين أقوى 20 اقتصاد عالميا؛ والأهم أنها لم تحقق هذا الإنجاز معتمدة على مواردها الطبيعية، بل بالعكس، حيث أن النقص في موارد الطاقة يسبب ضررا كبيرا في التجارة التركية بشكل سنوي، أي أن تركيا خاضت هذا السباق وهي متضررة في المقام الأول.

وإذا نظرنا إلى بعض الدول في قائمة أقوى 20 دولة اقتصاديا في العالم، نجد أن مقوماتها الوحيدة هي مواردها من النفط والغاز والموارد الطبيعية فقط، مما يعني أن هذه البلاد القوية اقتصاديا ليس لها في حقيقة الأمر قوة اقتصادية محركة، وبالتالي تمر هذه البلاد بضائقة كبيرة في هذه الفترة بسبب التفاوت في أسعار النفط. وعلاوة على ذلك، لا تسعى هذه الدول لتطوير ذاتها في أي مجال آخر سوى مجالات الطاقة والموارد الطبيعية التي تعتمد عليها بشكل كامل.

ولكن تركيا اتجهت للاستثمار في الثروة البشرية واستطاعت بذلك أن تحول نقص الموارد الطبيعية الذي عانت منه إلى فرصة وميزة يمكن توظيفها. ويعتمد طريق تطوير الثروة البشرية على دعامتي التعليم والإنتاج، حيث ضاعفت تركيا من عدد جامعاتها الذي بلغ 130 جامعة في آخر 18 عام ليصل بذلك إجمالي عدد الجامعات إلى 210 جامعات، وتتمتع جامعاتنا اليوم بتنوع كبير وجودة عالية متميزة، كما تلعب دورا حيويا في الحفاظ على تطوير الثروة البشرية التركية باستمرار.

في الحقيقة، نشهد جميعا حصاد هذا التقدم بل ونعيشه واقعا، لذلك يمكننا القول إن الجامعات عالية الجودة في تركيا تساهم بشكل كبير في الحفاظ على الثروة البشرية.

ويدرس في هذه الجامعات ما يقرب من ثمانية ملايين طالب، وهذا يعني أن تركيا لم تتفوق على ما كانت عليه قبل 18 عاما فحسب بل تفوقت على العالم أجمع حيث يدرس 8.5 بالمئة من عدد سكانها التعليم العالي. ومما لا شك فيه أن زيادة عدد الجامعيين هو الضمان الحقيقي للثروة البشرية التي تشكل المستقبل، كما يعتبر الاتجاه للتعليم الجامعي من جهة والعالمية التي وصلت إليها الجامعات التركية من جهة أخرى من أهم مصادر القوة التركية.

وأصبحنا نرى نتائج هذه القوة في النجاحات والانطلاقات والافتتاحات التي تقوم بها تركيا في كافة المجالات، وقد رأى العالم أجمع النجاح الباهر الذي حققته تركيا في القطاع الصحي في محاربة جائحة كورونا. أما في المجال الصناعي، فقد أصبحت تركيا قادرة على إنتاج كل ما تحتاجه بفضل مهندسيها وعناصرها الفنية، وقد حققت نجاحا باهرا في مجال الصناعات الدفاعية بيد عناصرها المميزة التي تعلمت في مؤسساتها التعليمية المحلية، وبالتأكيد سنشهد نجاحات جديدة في هذا المجال بفضل خبراتها المتراكمة.

باختصار، لم تعتمد تركيا على مواردها المادية الجاهزة لتطوير ثروتها البشرية، بل بالعكس، استطاعت أن تنهض وتتقدم بفضل ثروتها البشرية، ويتضح هذا جليا في الأوقات التي تعصف بالاقتصاد العالمي بينما يظل الاقتصاد التركي صامدا متكئا على هذه البنية التحتية.

قد يرجع السبب في عدم تطور الثروة البشرية في الدول الغنية بالنفط إلى حالة الخمول والكسل التي تسبب فيها اعتمادهم على النفط، فيعلم الله كيف تكون أحوال هذه الدول إذا لم يكن هناك نفط. وفي حقيقة الأمر، هذا موضوع اجتماعي يستحق الدراسة والتحليل، ولكن يجب ألا ننسى أن تحول هذا النقص في تركيا من عائق إلى ميزة لم يكن ليتحقق بدون السياسات التي اتخذت طوال الثمانية عشر عاما الماضية.

واليوم تركيا لديها الغاز أيضا … وما توقيت هذا الاكتشاف بعد أن ارتقت تركيا بثروتها البشرية إلا من نعم الله وعظيم تدبيره، لأن هذا التوقيت لدولة قد طورت مواردها البشرية ورفعت من جودة ثروتها الإنسانية ووصلت لمكانة محددة يعتبر توقيتا مميزا قادرا على أن يجعل هذه الثروة البشرية أكثر إنتاجية.