قطب العربي

تحل هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة لأبشع مذبحة بشرية في التاريخ المصري والعربي، إنها رابعة، وما أدراك ما رابعة! خط الاستواء الإنساني الذي يفصل بين الإنسان وغيره من الكائنات..
من شهد «رابعة» ليس كمن سمع عنها، وقد كنت شاهداً وكدت أن أكون شهيداً في تلك المجزرة، ذلك بأنني احتميت بأحد المساجد الذي احتضن مستشفى ميدانياً لتجنب مطاردة قوات عسكرية (الجيش). وبينما أنا كذلك، هجمت تلك القوات على المشفى الذي كان يعالج فيه جنديان مصابان ظن زملاؤهما أنهما مختطفان داخل المستشفى، وراحوا يطلقون زخات الرصاص الحي من نوافذ المسجد بعدما تترّس بعض المحتمين بالباب من الداخل لمنع هجومهم. وبينما كنت مستلقياً على الأرض تفادياً لتلك الرصاصات، مرت إحداها على قرب سنتيمترات قليلة مني، لتستقر في جسد أحد الأطباء المجاور لي ويلفظ أنفاسه الأخيرة.
ثلاث سنوات مرت على ذلك المشهد، وغيره من المشاهد المروعة التي لا تمحوها الأيام ولا السنون من الذاكرة. فمن ينسى إطلاق الرصاص على معتصمين سلميّين من كل حدب وصوب؟ ومن ينسى زخات الرصاص المنهمرة من طائرات عسكرية على مواطنين عزل لم تشفع لهم استغاثاتهم؟ ومن ينسى صرخات الطفل رمضان (اصحي ياماما) وغيره من الأطفال ممن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم في تلك المذبحة؟ ومن ينسى مئات الجثث التي اكتظ بها المركز الطبي الميداني في رابعة، وما حوله من خيام؟ ومن ينسى برك الدماء داخل مسجد رابعة الذي احتمى به البعض؛ ظناً أنهم قد ينجون من الموت فوجدوه ينتظرهم؟ ومن ينسى الجثث المتفحمة الملفوفة بأغلفة سوداء لم يبق منها شيء يدل على أصحابها؟ ومن ينسى الجرافات التي جرفت جثث الشهداء كأنها مجرّد نفايات بشرية، وهم الأكرمون عند ربهم؟ ومن ينسى شماتة الضباط في القتلى، وركلهم بأقدامهم دونما اعتبار لقداسة الموتى؟ ومن ينسى خروج الرجال والنساء من بعض الممرات الموصوفة بالآمنة، بينما كان الكثيرون منهم يتساقطون برصاص الشرطة أثناء خروجهم؟ ومن ينسى أولئك القادمين من محافظات نائية، الذين تقطعت بهم السبل، فهاموا على وجوهم في شوارع المنطقة المحيطة برابعة بحثاً عن مأوى أو وسيلة مواصلات تنقلهم إلى بلدانهم أو إلى أي مكان بعيداً عن ساحة المحرقة؟
في مقابل الأضاليل التي تنافست أذرع السلطة الإعلامية في ترديدها على مسامع وأعين المصريين، حول كثافة التسليح في رابعة، من واجبنا أن نذكر بأول تقرير مفصل لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» عن المذبحة أكدت فيه أن «العملية العسكرية التي جرت ضد المعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية كان المستهدف منها أولاً هو قتل أكبر عدد ممكن من المعتصمين، وثانياً فض الاعتصام مهما كانت التكلفه البشرية، سواء فى عدد القتلى أو الجرحى أو المصابين. وكانت تلك القوات قد عمدت عقب محاصرة الميدان، إلى قتل كل من حاول الخروج من الميدان، كما لم تكن هناك أي طريقة لإجلاء الجثث أو المصابين من الميدان. وعقب محاصرة الميدان من كل النواحي؛ قامت القوات المشاركة في فض الاعتصام بإطلاق الأعيرة النارية والخرطوش والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين، واستمرت عملية إطلاق النار عشوائياً حتى الواحدة والنصف ظهراً، سقط خلالها عدد كبير من المتظاهرين، ما بين قتيل وجريح، وامتلأت المستشفيات الميدانية بجثث القتلى، ولم يكن هناك مكان لأغلب الجرحى».
ووصفت المنظمة ما جرى بـأنه «جريمة إبادة جماعية، وحملة غير مسبوقة في مصر من الانتهاكات ضد الإنسانية، ولم تكن تمتّ إلى فض الاعتصامات بأي صلة».
مهما طال الزمن، ستظل رابعة وشهداؤها محفورة بعمق في ذاكرة كل حرّ، ليس في مصر وحسب، بل في كل مكان. ولعل أفضل تحيّة لأرواح أولئك الشهداء في ذكراهم الثالثة هي تحقيق ما استشهدوا من أجله.