العدد 1350 / 20-2-2019

بقلم : معين الطاهر

مناسبة هذا الحديث هي تصريحات القيادي في حركة فتح، عزام الأحمد، بشأن نتائج لقاء موسكو الذي جمع الفصائل الفلسطينية على مائدتها، لعلهم يتعظون بالجليد الذي يلف موسكو في هذا الوقت من العام، فيبادرون إلى كسره في تخوم فلسطين، وينجزون في حوارهم الروسي ما عجزوا عنه في حوارهم المصري.

لم يتوقع عاقل أن يخرج حوار موسكو بنتيجةٍ مختلفةٍ عما آل إليه. ثمّة هوةٌ سحيقةٌ تفصل بين الأطراف الفلسطينية، تعود، في جوهرها، إلى الاختلاف على المشروع الوطني الفلسطيني وماهيته. وهذا التباين الواسع هو أساس فشل حوارات المصالحة كلها، وهو سبب انهيار جميع محاولات إنهاء الانقسام، بل وحتى العجز عن إدارة الانقسام نفسه. وهو ما لم يستطع لا دفء القاهرة ولا جليد موسكو أن يجد له حلاً.

الغريب والمستهجن، أن يعلن عزام الأحمد، بعد فشل لقاء موسكو، قراراً بوقف الاتصالات مع حركة الجهاد الإسلامي، حتى تتراجع عن رفضها القرار رقم 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 كانون الأول 1948، زاعماً أن رفضها هذا يعني أنها ترفض حق العودة للفلسطينيين، ويعلق عودة الحوار معها باعترافها بالقرار، والاعتراف بحل الدولتين، وبمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. وفي هذا ما يشي بقصور شديد في فهم طبيعة العلاقات الداخلية الفلسطينية، وآليات الحوار والتواصل فيها.

خلال عشرات المؤتمرات السياسية والفكرية والأكاديمية التي حضرتها طوال الأعوام الماضية حول القضية الفلسطينية، كان موضوع تمثيل منظمة التحرير حاضراً وبقوة، حضور وضع المنظمة ذاتها. ودوماً، وحسبنا أن نذكر أن لجنتها التنفيذية ينبغي إعادة انتخابها كل عامين، وأن مجلسها الوطني ينبغي أن يُعقد مرة كل عام، وأن أكثر من ثلاثين عاماً مرّت على عقده في الجزائر عام 1988، والحال هو الحل، على الرغم من أن قوى سادت، وأخرى بادت، وأجيالاً تتالت.

ما حدث في موسكو لا يتعدّى اشتراط بعض الفصائل، ومن بينها الجهاد الإسلامي، ربط وحدانية تمثيل المنظمة بإصلاحها الذي لم يتحقق، على الرغم من المطالبات كلها. وعلى الرغم من الاتفاق على تأليف الإطار القيادي الموحد الذي سيتولى ذلك، لكنه لم يجتمع سوى مرة واحدة يتيمة. هنا، يطرأ سؤال ينبغي الوقوف عنده: من الذي يعبث بمنظمة التحرير، ويقلّص دورها وأثرها وقدرتها على تمثيل شرائح الشعب الفلسطيني المختلفة، ويستخدمها فزاعة لثني كل من يحاول أن يساهم، ولو بقدر بسيط، في تحشيد قدرات الشعب الفلسطيني وأصدقائه، على اعتبار أن تلك المحاولات تحمل شبهة المسّ بدور المنظمة الذي جرى تجميده؟ الخطر القائم والمحدق بالمنظمة، والذي يهدّد وجودها واستمرارها، إنما يأتي من بعض الذين قرّروا أن يُبقوها خارج دائرة الفعل، وأن يكتفوا بوضعها في غرفة الإنعاش، لاستخدامها لحظاتٍ وقت حاجتهم إليها، والذين قرّروا أن يجعلوها ذيلاً للسلطة الفلسطينية، بدلاً من أن تكون الإطار الوطني الجامع للشعب الفلسطيني كله.

غاب عن ذهن عزام الأحمد أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (صدر في كانون الأول 1948) الذي جعل الموافقة عليه شرطاً للحوار الفلسطيني قد رفضته في حينه جميع الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة، كما رفضته القيادات الفلسطينية كلها. وأن محتواه الرئيس يتضمن تشكيل لجنة للتوفيق بين الأطراف المتنازعة، وهو قائمٌ على أساسٍ من إيجاد تسوية على ما فُرض بالقوة، وهو يشترط العودة بالرغبة في العيش بسلام مع المحتل، وهو ما يجعلها مشروطة، وتخضع لمعايير مختلفة، وغير ذلك من نقاطٍ تحتمل تأويلات متعددة، مثل تعريف اللاجئين أنفسهم. وهو، في جميع الأحوال، كان قراراً خلافياً مثل قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947، قد تجد من يرفضه ومن يؤيده.

وهنا، يُثار سؤالان؛ يتعلق الأول بجواز أن يكون الخلاف على قرارٍ للأمم المتحدة لم يلتزم به أحد، بعد سبعين عاماً منه، أساساً للفرز والتقسيم. والثاني، هل رفض هذا القرار يعني رفض حق العودة كما يقول الأحمد، أم أن من يرفض حق العودة فعلاً هو من يطمئن العدو بأن القيادة الفلسطينية لا تعتزم إغراق الكيان الصهيوني بملايين اللاجئين العائدين، ولا تنوي تغيير هوية الدولة الصهيونية، وأن ما تسعى إليه هو إدراج هذه القضية على ملف المفاوضات، وما دامت النيات قد أُعلنت باتجاه إسقاط حق العودة الفعلي، فإن هذه المفاوضات لن تتجاوز إطار البحث في التعويضات، بما فيها تعويضات لليهود، كما ستشكل مقدمةً حقيقيةً لتوطين اللاجئين في أماكن وجودهم، بذريعة إيجاد حل نهائي لهذه المشكلة؟

ثمّة بدعة جديدة لا تقل خطورةً عن جميع ما سبق، تتعلق باعتبار الموافقة على حل الدولتين الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة معياراً للالتزام بما يدعوه الأحمد "المشروع الوطني الفلسطيني"، والذي بدا واضحاً أن آفاقه لم تتعدَّ يوماً إطار "حكم ذاتي محدود"، تتغلغل فيه المستوطنات، ويفتقر إلى أبسط مظاهر السيادة والاستقلال، وأن يجعل شرط الانجرار خلف المشروع شرطاً للحوار والمصالحة.

لم تشهد الساحة الفلسطينية، على امتداد تاريخها، مثل هذا المنطق، ودوماً كان ثمّة تباين واختلاف في وجهات النظر، وكان ثمّة معارضة داخل منظمة التحرير، وهنالك تيارات، حتى داخل فصائلها، منها من وقف مدافعاً عن حلولٍ مرحلية، ومنها من رفضها، ولكن لم يلجأ أحد إلى إخراج الآخر من المشروع الوطني الفلسطيني، أو إلى مطالبته بتبنّي برنامجه بالكامل، وإلّا لاختفت الفوارق، وما عاد من مبرّر لوجود تيارات وقوى. الأكثر غرابة وخطورة أن تأتي هذه الدعاوى في وقتٍ بدا واضحاً فيه انهيار اتفاق أوسلو، وجميع ما نجم عنه، وكأن بعض الذين ما زالوا يدافعون عنه يودّون جذب الآخرين إلى القاع التي انجرّوا إليها.