العدد 1369 / 10-7-2019

أسامة أبو ارشيد

نَشَرْتُ في 31 أيار الماضي، مقالاً تحت عنوان: "أما آن للقيادة الفلسطينية أن تتنحّى؟" خلص إلى ضرورة أن "تتنحّى القيادة الرسمية الفلسطينية عن الواجهة"، وذلك بعد عقود من مراكمة الفشل سياسيا ووطنيا، ودعا إلى إفراز قياداتٍ وطنية جديدة تعمل على إحياء المشروع الوطني الفلسطيني. وفي 10 حزيران، رد الكاتب والأكاديمي، إبراهيم فريحات، على المقال بآخر تحت عنوان: "ليس على القيادة الفلسطينية أن تتنحّى الآن"، اعتبر فيه أن هذا ليس هو "التوقيت المناسب لفتح معارك داخلية مع القيادة الفلسطينية الرسمية ومحاسبتها على أخطاء "أوسلو"، وما لحقها في اللحظة التي يكون فيها الشعب الفلسطيني في خضم المواجهة مع "صفقة القرن" والعدوان المسعور الذي يقوده فريق جاريد كوشنر (مستشار الرئيس الأميركي ترامب) وجيسون غرينبلات (مبعوث ترامب) وديفيد فريدمان (سفير ترامب في إسرائيل) ضد الفلسطينيين". ثمّ كان هناك مقال ثالث للكاتب حيّان جابر، في 15 حزيران "بين تنحّي القيادة الفلسطينية وعدم تنحّيها"، ورأى فيه: "أننا مطالبون بتغيير مجمل القيادات الفلسطينية، ومجمل البيئة والعوامل التي أفرزتهم، وساهمت في بقائهم حتى اللحظة، على الرغم من كل الأخطاء والمصائب التي ألقوها على عاتق الشعب والقضية الفلسطينية، فالتغيير الذي ننشده شامل وجذري، ويجب أن يتعدّى تغيير القيادة إلى تغيير البرنامج والنهج".

منطلق هذا المقال عبارة وردت في مقالة حيّان جابر جاء فيها: ".. فالتغيير الذي ننشده شامل وجذري، ويجب أن يتعدّى تغيير القيادة إلى تغيير البرنامج والنهج". وأتفق مع هذه الخلاصة،

بقاء الحال على ما هو عليه قد يدخلنا جميعاً في حالةٍ من التواطؤ في تثبيت واقعٍ كارثي غير أني مقتنع بأنه لا يمكننا أن نغير "البرنامج والنهج" من دون أن يكون هناك تغيير في هيكلية "القيادة الرسمية" الفلسطينية أولا وقبل كل شيء، وكان مقالي واضحا أنه يحيل إلى تلك القيادة، من دون أن يقلل ذلك من أزماتنا في القيادات الفصائلية والاجتماعية التقليدية. ما أرى ضرورة إضافته هنا أن الحل بحاجة إلى نقطة انطلاق، وأي تقليل من أهمية دور "القيادة الرسمية" في صيرورة أزماتنا سيكون من باب الوَهْمِ وخداع الذات، وبالتالي، قد يشكل ذلك تواطؤا من النخب الفلسطينية عبر الإحجام عن تحديد أحد أهم مصادر أزمتنا. ثمَّ إن أي مشروع يواجه فشلا وتحدياتٍ كبرى، تكون القيادة أول ضحاياه، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال، فكم من حكومة سقطت إلى اليوم بسببه، على الرغم من أن المسألة أكبر وأعقد من حكومة ورئاسة حكومة، وقس على ذلك نماذج كثيرة.

قد يقول بعضهم إن في مقارنة النظام السياسي الفلسطيني تحت الاحتلال بنظام سياسي مستقر وعريق، كالبريطاني، عسفا كبيرا. صحيح. ولكن، لا ينبغي أن نهمل أيضا أن القرارات المصيرية الكارثية التي اتخذتها "القيادة الرسمية" الفلسطينية لم تستشر الشعب الفلسطيني بشأنها، ولا حتى الفصائل نفسها. لا زلنا نحصد نتائج تلك القرارات، في حين أن الشخصيات التي زرعت الفشل لا تزال في أعلى الهرم القيادي! أبعد من ذلك، فإن النهج الخاطئ والبرنامج الذي ثبت فشله منذ مدريد عام 1991 لا يزال مستمرا، ويمضي بالوتيرة نفسها، بمعنى أنه يستحيل إحداث تغيير في المسار، أو حتى إعادة النظر فيه، في حين أن من يقود المشروع بقوة السلطة والقهر مرتبط مصيريا ووجوديا باستمرار النهج نفسه والبرنامج نفسه، ويعجز عن رؤية غيرهما.

ليست الدعوة إلى تغيير القيادة الفلسطينية تماهيا مع مشاريع صهيونية وعربية ودولية لمحاولة تفصيل قيادة فلسطينية جديدة على مقاساتها ومصالحها، أبدا، بل إنها نابعة من الذات الفلسطينية، لإيجاد قيادة وطنية تعبر عن الكلِّ الفلسطيني، وتفسح المجال لبناء توافق وطني على مشروعنا الوطني، حتى ولو كان على قاعدة الحدود الدنيا. حينها فقط نكون مهّدنا لـ"تغيير مجمل القيادات الفلسطينية، ومجمل البيئة والعوامل التي أفرزتهم، وساهمت في بقائهم حتى اللحظة, وحينها فقط نكون قد أطلقنا عجلة "إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، بما في ذلك إيجاد قيادة فلسطينية منتخبة خاضعة للمساءلة، يقاس بقاؤها في موقعها بمستوى تقدّمها بالمشروع الوطني الفلسطيني إلى الأمام".

لا ينبغي أن نهمل أن القرارات المصيرية الكارثية التي اتخذتها القيادة الرسمية الفلسطينية لم تستشر الشعب الفلسطيني بشأنها، ولا حتى الفصائل إفشال ورشة المنامة، وهذا واجب وطني أولا وأخيرا. ولكن، ينبغي أن نبقي في أذهاننا أن "صفقة القرن" ماضية واقعاً على الأرض عبر تصفية القضايا المركزية التي تُعَرِّفُ الصراع، كملفات القدس واللاجئين والسيادة والدولتين.. إلخ، والآن هناك حديث أميركي عن حق إسرائيل في ضم حوالي 60% من الضفة الغربية، وهو أمر قادم.

أختم هنا بعبارة جاءت في مقالي في (31/5/2019)، إن "أرحام الشعب الفلسطيني لم تعقم إنجاب كفاءاتٍ سياسية وفكرية ووطنية ومقاومة، كما أن تاريخ هذا الشعب أثبت، مرة بعد أخرى، أنه لا يساوم على حقوقه". بعد ذلك كله، هل يستكثر علينا أن نطالب بإطلاق قطار التغيير؟ إذا اتفقنا على حقنا في ذلك، بل وضرورته، حينها يمكن أن نتفق على الأسس والقواعد والآليات والإجراءات والاحتياطات اللازمة لمنع تسلل أجندة العابثين إلى ما نرومه من تصويب مسار المشروع الوطني الفلسطيني. أما بقاء الحال على ما هو عليه فقد يدخلنا جميعا في حالةٍ من التواطؤ في تثبيت واقعٍ، كلنا يعلم أنه سيئ وكارثي.