العدد 1681 /17-9-2025
معين الطاهر
لا تسير الأيام على
وتيرة واحدة، فلكل زمان دولة ورجال، ولكل مرحلة موازينها، ما إن تختلّ حتى تتغيّر
ويأتي ما بعدها، تقدّماً عما سبق، أو تراجعاً عنه، أو محاولة لترسيخه بشخوص
ومعادلات مختلفة. الحديث هنا عن مرحلة التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية مع الكيان
الصهيوني، وما تخلّلها من محاولات دؤوبة للولايات المتحدة لتوسيع مظلة هذه
الاتفاقيات، وضم دول عربية وإسلامية إليها، فنسمع توقعات، ونشهد مساعيَ لضم هذه
الدولة أو تلك إلى مسار التطبيع. فهل ترسّخت استراتيجية التطبيع وصارت أمراً
واقعاً في السياسة العربية، سيلتحق بها من فاته قطارها، أم تغيّرت على وقع حرب
الإبادة الجماعية، والمشروع الإسرائيلي لإعادة تشكيل خريطة الإقليم؟ وهل يغدو
التطبيع تبعية، أم تنهض الأمة من سباتها، وينتبه النظام العربي الرسمي إلى ما
يهدّد أمنه وسيادته واستقلاله وترابه وموارده من مخاطر؟
منذ ما قبل النكبة
الفلسطينية عام 1948 وما بعدها، كانت لقاءات ومراسلات سرّية بين رسميين عرب
وصهاينة، لكنها كانت مثل تلك الإيماءات بين عرب وإسرائيليين، تلتقطها كاميرات
الصحافيين في الممرّات، وتُقابل بالنفي والإنكار. نقطة التحوّل الأولى في الموقف
العربي الرسمي حدثت بعد يونيو/ حزيران 1967، حين تبنّى شعار إزالة آثار العدوان،
بدلاً من شعاراته السابقة بتحرير فلسطين واستردادها، وترسّخ ذلك الموقف بعد حرب
1973، وبرزت أوضح تجلياته في تبنّي الحركة الوطنية الفلسطينية البرنامج المرحلي
الذي عُرف ببرنامج النقاط العشر، وكان، في جوهره، يندرج ضمن المطالبة بسلطة
فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزّة. لكن ذلك كله كان ضمن مسار متعرّج بين
التمسك بالحقوق الثابتة والتنازلات التدريجية عنها، وبين استمرار الصراع، والاتجاه
نحو تسويته عبر المفاوضات غير المباشرة التي سرعان ما تحوّلت إلى مفاوضات مباشرة
بين مصر وإسرائيل، أدّت إلى اتفاقات كامب ديفيد، وخروج مصر من دائرة الصراع العربي
- الإسرائيلي. لم تتمكن "كامب ديفيد" من كيّ الوعي العربي، وجوبهت بموقف
شعبي ورسمي عربي مناهضٍ لها. أما اتفاق أوسلو الذي اعترفت فيه منظّمة التحرير
الفلسطينية بحقّ إسرائيل في الوجود، من دون أي اعتراف إسرائيلي بالحقوق
الفلسطينية، والاكتفاء بالاعتراف بأن المنظمة هي الطرف الذي يمثّل الفلسطينيين في
أي مفاوضات بين الطرفين، فقد كان حجر الزاوية الذي اعتمد عليه النظام العربي
الرسمي للتنصّل من القضية الفلسطينية تدريجيّاً، والانتقال إلى مرحلة التطبيع مع
الكيان الصهيوني.
شملت مرحلة التطبيع
اعترافات متبادلة، وتمثيلاً دبلوماسيّاً، واتفاقات اقتصادية وأمنية، وتغيّراً في
المناهج التعليمية لدى الطرف العربي فحسب، وتردّدت شعارات حول السلام الاقتصادي
وفوائده، وعلاقات حسن الجوار، والتقاء الأديان السماوية الثلاثة تحت المظلة
الإبراهيمية، وهدفت كلها إلى جعل الكيان الصهيوني طرفاً فاعلاً في سياسات المنطقة
واقتصادها وبنيتها، وادّعى النظام الرسمي أن التطبيع سيمكّنه من أداء دور أفضل
لصالح القضية الفلسطينية، إلا أن الوقائع أثبتت أنها مكّنت الاحتلال من الاستمرار
في فرض سيطرته على الأرض الفلسطينية، كما قلّصت الضغط الدولي عليه، ما دام أن
النظام العربي قد توصّل إلى تفاهمات معه، الأمر الذي جعل القضية الفلسطينية على
حافَة التصفية والنسيان من جهة، وأبقى الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة الاحتلال.
في ظل هذا الواقع، جاء
"7 أكتوبر" ليؤسس لمرحلة جديدة، شهدت حرب الإبادة الجماعية والتجويع
التي يشنّها الجيش الإسرائيلي، وامتداد الحرب من غزّة والضفة الغربية إلى سبع دول
أخرى، في لبنان وسورية والعراق واليمن وإيران وأخيراً قطر وتونس التي استهدفت
المسيرات الإسرائيلية في مينائها سفينتين من أسطول الحرية، فلم تعد معادلات
المرحلة السابقة صالحة، سواء أكان ذلك لدى الجانب العربي أم الجانب الإسرائيلي
الذي بات يستند إلى فائض قوته والعجز العربي، ويستلهم رؤيته من الأساطير التوراتية.
ما عاد العدو
الإسرائيلي يسعى إلى التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، مستعيناً بالنفوذ
الأميركي لتحقيقه، وما عاد يأمل في الدخول في مفاوضاتٍ لترتيب علاقاته السياسية
والاقتصادية والأمنية معها، هذا كله صار من زمن مضى في ظل حكومة بنيامين نتنياهو
التي يبدأ مشروعها برفض إقامة دولة فلسطينية، وتهجير أهالي غزّة، وضم الضفة
الغربية، ولا ينتهي بتغيير خريطة الإقليم، وتشكيل شرق أوسط جديد، بخرائط مستحدثة
مبنية على تفتيت دوله، والهيمنة على أنظمته، والسيطرة على مقدراتها، في شكلٍ
يعيدنا إلى زمن الاستعمار والوصاية الأجنبية. وهو ما حذّر منه رئيس وزراء قطر
ووزير خارجيتها، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بعد العدوان على بلاده، حين
تساءل ما إذا كان نتنياهو يريد إعادة تشكيل الخليج!
السياسة الإسرائيلية
واضحة وضوح الشمس، ولا يمكن تغطيتها بغربال؛ في سورية تسعى إلى ضم الجنوب السوري،
وإبقاء سورية ضعيفة، بعد تقسيمها إلى دويلات طائفية، وهي تفرض ذلك بقوة نيرانها،
وتهدّد مصر والأردن بقطع إمدادات الغاز والمياه إذا ما اتخذا مواقف مضادّة لسياسات
التهجير والهيمنة. وفي لبنان، تستمر الغارات الإسرائيلية، وقد تتطوّر إلى اجتياح
جديد يثير فيه النزاعات الداخلية، ويمتد إلى اليمن والعراق، وإلى دول الإقليم، حيث
تتزايد احتمالات تجدّد القتال مع إيران، فضلاً عن أن تقسيم سورية ورسم خريطة شرق
أوسط جديد يعني نزاعًا مع تركيا. المرحلة القادمة التي تخطّط لها حكومة نتنياهو
تتجاوز التطبيع إلى التبعية.
لكن ما تخطّط له
الحكومة الإسرائيلية ليس قدراً محتوماً، ويمكن مواجهته ودحره وهزيمته، وعلى النظام
الرسمي العربي أن يستشعر خطورته، وأظنّه بدأ يتلمس ذلك، وأن يسعى إلى تشكيل جبهة
عربية موحّدة تمتد لتنسج تحالفات إقليمية، وأن يعيد رسم علاقاته بشعوبه، وفي إمكانه
ذلك، فعناصر قوته كثيرة وكبيرة إن أحسن استخدامها، خصوصاً أن الرياح الدولية
موائمة، في ظل ازدياد عزلة إسرائيل في العالم. ثمّة خيار واحد في مواجهة مرحلة
التبعية، التمسّك بالاستقلال والوحدة، ومقاومة المشروع الصهيوني الذي يشكّل خطراً
على الأمّة بأسرها، حتى لا نعيد سيرة ملوك الطوائف الذين طواهم التاريخ ولعنتهم
الأجيال.