العدد 1385 / 6-11-2019

بقلم : عبد الحميد صيام

يشهد الوطن العربي هذه الأيام انتفاضات شعبية عارمة، انطلقت من السودان في ديسمبر 2018، وانتقلت إلى الجزائر، ثم عادت وأزهرت في أرض الرافدين، مرورا بعمان واستقرت أخيرا في لبنان شماله وجنوبه بقاعه وجبله.

هذه الانتفاضات أو الثورات أو الهبات، لا يهم ماذا نطلق عليها، في جوهرها مطلبية وليست تغييرا سطحيا في هرم النظام، كما حدث في انتفاضات 2011. فبعد إسقاط نظام بن علي ومبارك وصالح والقذافي، ركن شباب الثورات إلى الوضع الجديد، اعتقادا منهم أن الأمور الآن تسير في طريقها الصحيح، خاصة أن إجراءات شكلية قد تبعت الانتفاضات، كالانتخابات في مصر وليبيا، واستبدال علي عبد الله صالح بنائبه، إلا أن الثورة المضادة عادت وأسقطت تلك الثورات بطريقة أو بأخرى، أو ورطتها في بحر من الدماء. لكن يبدو أن الانتفاضات الحالية مصممة أكثر، وبطريقة سلمية حضارية، على إعادة صياغة النظام برمته مثلما جرى ويجري في السودان والجزائر ومثلما، يحاول المنتفضون في العراق ولبنان تحقيقه.

لقد وصلني أكثر من تعليق على مقالي (أمة نحو النهضة الشاملة) حول موجة الانتفاضات الحالية، الذي يحمل نبرة تفاؤل، رغم المصاعب العديدة، ورغم لجوء نظام بغداد والميليشيات إلى استخدام السلاح. ونؤكد هنا أن أسلوب التخويف بالقتل والسجن والتعذيب قد يؤجل الانفجار، ولكن لن يمنعه. ومن بين التعليقات سؤال تكرر لماذا لا ينتفض الشعب الفلسطيني؟ أليس هناك من الأسباب ما يدعو هذا الشعب المناضل إلى الانتفاضة؟ وسأحاول قدر الإمكان أن أجيب على هذا السؤال.

الأسباب الموضوعية للثورات

الثورات أو الانتفاضات الجماهيرية الكبرى لا تأتي فجأة وكأنها معجزة من السماء. ومخطئ من يظن أن ثورات الشعوب والانتفاضات الجماهيرية الكبرى يمكن أن تكون فقط استجابة لمؤامرة خارجية، كما يحلو لبعض الكتاب أن يردد على مسامعنا أن كل ما جرى في العالم العربي من صناعة كوندليزا رايس وبرنارد ليفي. الثورات تنفجر بعد نضوج أسباب موضوعية ومادية تدفع بالجماهير وقياداتها الواعية للانطلاق نحو الثورة، من دون حسابات الربح والخسارة. وهذه الظروف الموضوعية تتطلب نضوجا مسبقا يتجسد في شروط أربعة: أولا: عندما تصبح غالبية الشعب متضررة من النظام المستبد والظالم والفاسد، وعلى استعداد أن تقف في وجهه وتدفع الثمن. وثانيا: عندما تبدأ القيادات السياسية والفكرية والنقابية والمدنية تباعد نفسها عن النظام، خوفا من تلويث سمعتها وضرب مصداقيتها. وثالثا: خسارة النظام للتأييد الخارجي، فيصبح شبه معزول دوليا ومكروها داخليا. وأخيرا، عندما تبدأ عملية التعبئة والتشبيك ضد النظام، تتسع وبأشكال مختلفة وتصل إلى نقطة الحسم بانتظار اللحظة المناسبة، التي نسميها الشرارة، أو نقطة التحول التي تطلق طاقات الجماهير فتفجر الثورة، بغض النظر عن فرص نجاحها والقوى المستفيدة منها والمتربصة بها وإمكانية انحراف مسارها يسارا أو يمينا.

هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى الانفجار، كما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا (والمغرب إلى حد ما) ولكل بلد ظروفه في كيفية التعامل مع الانتفاضات الشعبية.

ولو طبقنا هذه الشروط على أي وضع عربي لانطبقت عليه تماما: أنظمة فاسدة ظالمة، شعب متضرر بغالبيته، تعبئة شاملة ضد النظام ورموزه، سهلها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تراجع التأييد الدولي والدعم والمساعدات الخارجية. تبدأ الأمور تغلي في الخفاء بانتظار الشرارة: "ظاهرة بوعزيزي في تونس، أو خالد سعيد في مصر، أو سجن أبو سليم في ليبيا، أو قناصة شارع الستين في صنعاء، أو حمزة الخطيب وأطفال درعا في سوريا"، فينطلق البركان من تحت السطح إلى الأعلى. هذه الحالة تنطبق على معظم الدول العربية تقريبا ما عدا الدول الريعية خاصة الصغيرة (الكويت، قطر، عمان، الإمارات) التي بسبب موارد النفط الكبيرة توصلت مؤقتا إلى معادلة قوية تقوم على تبادل الولاء للطبقة الحاكمة، مقابل الامتيازات الكبيرة، من دون أن تكون هناك ضرورة لاستخدام العنف، أو الإفراط في الممارسات الشمولية.

الشعب الفلسطيني مفجر الانتفاضات

في العالم العربي إذن المعادلة واضحة نظام فاسد ظالم مقابل شعب مقهور ومتضرر. الوضع في فلسطين يختلف تماما، والمعادلة ليست بهذه البساطة، فهناك نظامان سيئان في الضفة وغزة.

فالسلطة الفلسطينية في الضفة ركبت جهازا فاسدا وقمعيا وهناك شعب مقهور مضطهد، ولكن السلطة والشعب يخضعان معا لاحتلال شرس ومجرم ودموي وعنصري في الضفة الغربية والقدس.

وفي غزة هناك نظام قمعي ، ويحاول أدلجة المجتمع، وفرض سلطة واحدة قوة واقتدارا، ولكن الناس بمن فيهم سلطة حماس يخضعون لحصار من البر والبحر والجو، والمعبر الوحيد الذي يربط غزة بالعالم الخارجي هو معبر رفح، الذي تحول إلى مختبر إذلال وقهر وخاوات ورشاوى، يفتح يوما ويغلق أسابيع، ولا يمر منه طالب أو مريض أو حاج إلا بعد أن يدفع "المبلغ المحدد سلفا".

السلطة الفلسطينية، خاصة في عهد محمود عباس، عملت على شيئين أساسيين- القيام بحملة وقائية لسحب كل وسائل المقاومة والانتفاضة من أيدي الناس لصالح إسرائيل، تحت مسمى التنسيق الأمني. ومن جهة أخرى ربطت الغالبية من الشباب خاصة، برواتب آخر الشهر، المرتبطة أصلا بالاحتلال. ولتسهيل مهمة تدجين الشعب الثائر، قام الثنائي فياض- بلير بتسهيل إعطاء قروض لكل من يخدم في الحكومة. فأصبح كل فرد يستطيع أن يشتري شقة وسيارة بالتقسيط. كما سهلوا منح القروض وانتشار المنظمات غير الحكومية، حتى أصبحت "ظاهرة". فكل من يريد تمويلا من أوروبا واليابان وكندا يفتح منظمة غير حكومية، تهتم بحقوق المرأة أو الطفل، أو حقوق الإنسان، أو الديمقراطية، أو المساءلة أو السلام أو الحوار أو التعايش، فتنهال الأموال.

إذن بعد تسع سنوات أو يزيد من الدمار الذي سببه فياض- بلير وما سبقهما وما تلاهما من مؤسسات الفساد والإفساد، إضافة إلى سطوة الأجهزة الأمنية في تشليح الشعب الفلسطيني كل وسيلة مقاومة مهما صغرت، وتوسع وتعميق التنسيق الأمني لاعتقال المناضلين، أو قتلهم أو تسليمهم بهدوء، وجدت شعبا الآن مرتبطا بشكل أساسي براتب آخر الشهر، كي يحافظ على الحد الأدنى من عيش بسيط. وعندما يتأخر الراتب أو يصرف جزء منه فقط، كما حدث مؤخرا كوسيلة لترويض الناس والقبول بالأمر الواقع على مرارته، تبدأ الناس تصرخ وتتظاهر وتعتصم، ليس من أجل إنهاء الاحتلال والانتصار للوطن، بل من أجل قوت العيال.

لقد أصبح وجود سلطة أوسلو في رام الله وسيطرة أجهزة حماس على السلطة في غزة عائقا لاشتعال انتفاضة ثالثة سلمية ومتواصلة ومتعاظمة، لكنس الاحتلال وفك الحصار عن غزة. وكي تعطى الانتفاضة فرصة للانطلاق، يجب أن يسبقها أولا إنهاء الانقسام الفلسطيني، وقيام قيادة موحدة وطنية، لتطبيق برنامج نضالي يتعامل أساسا مع الاحتلال والحصار.

إن الانتخابات التي دعا إليها عباس، إنما هي نوع من الهروب للأمام، في ظل الانقسام خاصة، ومشروع الدولة المستقلة التي بشرنا بها الأوسلويون تتبخر أمام عيوننا. ولذا نحن لا نتوقع أن تنطلق الآن انتفاضة فلسطينية شاملة ضد الاحتلال والحصار، بل إذا انطلقت فلا بد أن تكون ضد هذه القيادات التي أوصلت المشروع الوطني الفلسطيني إلى هذا المأزق الوجودي، وأي تغيير شكلي ضمن سقف أوسلو لن يؤدي إلا إلى النتائج نفسها. وليكن شعار الانتفاضة المقبلة عندما تكتمل ظروف انطلاقتها: "حلوا عنا جميعا".