العدد 1356 / 3-4-2019

بقلم : غازي دحمان

يصعب تصور قيام ثورة في بلد تنتصب فيه آلاف الحواجز، فلا يمكن اجتماع عشرة أشخاص بين حاجزين، يبعد أحدهما عن الآخر أمتارا قليلة، والتجمعات الوحيدة المسموحة في سورية اليوم هي الطوابير التي تنتظر الحصول على ربطة خبز أو جرّة غاز. تواجه الثورةَ المنشودةَ في سورية مشكلتان تقنيتان، يصعب معهما قيام ثورة سلمية، يريدها النشطاء والغيورون تصحيحاً لثورة أجهضت، ثورة سلمية تبرز أحقية السوريين بالثورة، وتسلط الضوء على مدنيتهم وانضباطهم، وتهتف بوحدة الشعب السوري "واحد واحد" مرّة أخرى.

الأولى: سقوط القانون نهائياً، على الرغم من أن كل أفعال جمهورية الأسد، منذ نشأتها، لم تكن قانونية في أي يوم، خصوصا على صعيد تعاملها مع معارضيها، إلا أنها اليوم أصبحت مافيوية بالمعنى الحرفي، وكل عنصرٍ على حاجز، مهما تكن رتبته، لديه صلاحية قتل أي شخص، حسب تقديره الخطر الذي يشكله هذا الشخص، فما بالك بمظاهرة تهتف بإسقاط النظام!

الثانية: غياب كلي للإعلام، صحيحٌ أنه طوال سنوات الثورة لم يكن في الساحة سوى إعلام النظام وأحبائه الذين كانوا يفبركون الأخبار على هواهم، إلى درجة أنهم صاروا يدّعون أن ما يصفه الإعلام "المغرض" لمظاهرات حي الميدان الدمشقي لم تكن سوى مسيرة شكر (لمن؟) على نزول المطر، لكن الفرق أن النشطاء استطاعوا، وعبر تقنية الفيديو، إيصال أخبار مظاهراتهم إلى وسائل الإعلام التي كانت سياساتها التحريرية تسمح بتسليط الضوء على الحدث السوري، وهو ما لم يعد ممكناً اليوم نتيجة متغيّرات كثيرة، أهمها غزو روسيا ولوبياتها وجماعاتها وسائل إعلام غربية كثيرة، وضغطها على الإعلام العربي الذي أخذ بعضه يصف بشار الأسد "رئيس الجمهورية العربية السورية".

وبخلاف المشكلتين المذكورتين، فإن قيام مثل هذه الثورة الآن أصبح مطلباً لنظام الأسد، ليستثمرها في تبرير فشله على صعيد إدارة مرحلة ما بعد نهاية الاضطرابات، ويشد عصب حاضنته التي بدأت تتفسّخ، بفعل الصراعات بين مكوناتها، بعد انتهاء مرحلة التعفيش والنهب وبرود الجرح، وكذلك ليلهي داعميه عن حقيقة كونه بات عبئا ثقيلا بما لا يُطاق، لعل ذلك يمنحه قبلة حياةٍ جديدة، قبل أن يتفق داعموه على التخلص من عبئه، أو عرضه للبيع بأي ثمن، بدليل إصرار رأس النظام على أن الحرب في سورية لم تنته، بل إنه يواجه خمس حروب دفعة واحدة.

إضافة إلى ذلك، أصبح البلد مفرغا من الشباب والناشطين الذين يشكلون أدوات الثورة وأعمدتها، كما أن من بقوا في سورية باتوا يواجهون تحدياتٍ من نوع الحفاظ على البقاء في مواجهة سياسات الإقتلاع الجسدي والهوياتي التي تمارسها إيران وترصد أموالا وجهودا طائلة لتحقيقها.

وعدا عن ذلك، الدافع الأهم لعدم الحاجة لقيام ثورة جديدة أن الثورة في الأصل لم تنته. ما تعيشه سورية اليوم هو تداعيات الثورة ومفرزاتها، وهذه عمليةٌ ستأخذ وقتها، ولها مفاعيل الثورة نفسها، ديناميكية مدمرة ستؤدي كل يوم إلى توسيع الشقوق في بنية النظام، وتضرب عميقا لتدمر جذوره ومرتكزاته.

وفي ظل ذلك، يبحر بشار الأسد بعيداً في انفصاله عن الواقع، إلى درجةٍ أصبح فيها لا يعي ما يدور حوله، سواء على صعيد العزلة المضروبة حوله، أو على مستوى التحضيرات الجارية في أكثر من بلد لمحاكمته هو ورموز نظامه، في حين أن الصراع في سورية وعليها أصبح متقاطعا بحدة مع صراعات جيوسياسية كبرى، تطوي بداخلها مصير الأسد ومستقبله.

لقد بات نظام الأسد يحمل بذرة نهايته. جمع كل عناصر الانهيار وحقنها في بنيته. هو نظامٌ كانت لديه بعض الصلاحية لحكم سورية الأمس، لكنه ليس صالحا لخطط ومشاريع باتت سورية بحاجة لها للنهوض من الوحل. مات يوم قرّر تدمير البلد ثم بيعه لروسيا وإيران اللتين سيؤدي صراعهما على التركة السورية إلى تفكيك أجزاء من النظام، وتركيب أجزاء أخرى، سيؤدي ذلك إلى انهيار هيكليته، وتصنيع هيكليات جديدة.

مؤكّدٌ أن سورية في حالة عطالة، طالما بشار الأسد موجود في السلطة، وكل يوم عطالة يكلف روسيا كثيرا، لن يتقدّم البلد قيد أنملة في ظل هذه الأوضاع، ولن يطول الوقت حتى يطالب العالم روسيا بإيجاد حلولٍ للأزمات السورية، كما أن روسيا تملك عرضاً من الصعب توفره دائما: التخلص من إيران وبشار الأسد مقابل الحصول على المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية في سورية، وهذا العرض هو اختبار للنخبة الروسية الحاكمة التي يصعب عليها التضحية به، من دون حصول خلافات داخلها، ويبدو أنها بدأت بالفعل من خلال احتجاج رجال الأعمال الروس على سياسة بوتين في سورية.