العدد 1417 / 17-6-2020

يدخل توظيف الدراما بقوّة إلى قائمة الأدوات التي تستخدمها أنظمة وأطراف عربيّة متصهينة؛ لغسل أدمغة شعوب الأمة العربيّة والإسلاميّة، وترويضها لتقبَلَ بعلاقات طبيعيّة مع مغتصِبي حقوقها في فلسطين المحتلة.

تعالَوا نتأمّل في الخطوات والإجراءات التفصيليّة التي تُوِّجَتْ بصورتها النهائيّة مسلسلاتٍ أو أفلامًا تطبيعيّة: هناك من وضع الفكرةَ، ومن أعدّ السيناريو، ومن اختار الشخصيات، ومن أخرجَ، وأنتج، وسوّق، وموّل، وبثّ، ومن وافق على كلّ ذلك عن سابقِ وعيٍ بخطورة ما تحتويه هذه المسلسلاتُ والأفلامُ من تزويرٍ للحقائقِ، وتشويهٍ للوقائع، وتضليلٍ للمتلقّي.

هذه السلسلة المتداخلة بأبعادها الفنية والمالية والإدارية والسياسية، والطويلة بخطواتها التنفيذية تشير بوضوح إلى أننا أمام جريمة موصوفة بصفتيْن أساسيّتيْن:

الأولى أنها مقصودة، أي أنّ أهدافها الخبيثة مرسومة ومتفق عليها. والثانية أنّها مركّبة، أيْ تدخُل فيها عناصرُ التخطيط، والإصرار، والتنفيذ المتعدّد المسارات. وبهذا الفَهم يجب أن نتعامل مع هذه الإنتاجات؛ فهي ليست أعمالًا إعلاميّة دراميّة بريئة، بل أدوات مسمومة لتخريب العقول، والقلوب، والضمائر.

سيقول لنا المُخلَّفون من الأعراب المطبِّعين: نحن لا نأتي بشيء جديد؛ فقطار التطبيع انطلق رسميًّا منذ أكثر من أربعين سنة، حين وقّعت مصر مع الاحتلال الإسرائيليّ على اتفاقية "السلام" المعروفة باتفاقيّة كامب ديفيد المشؤومة عام 1978، ثمّ تتابعت المحطات في مسير هذا القطار؛ ومن أسوئِها محطة اتفاقيّة أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيليّ عام 1993، ومحطة اتفاقيّة وادي عربة بين الأردن والاحتلال الإسرائيليّ عام 1994. هذه الحُجّة ساقطة في قانون الشعوب الأبيّة؛ إذ لا يُقبَل القياس على باطل، وهذه الاتفاقيات كلّها باطلة مرفوضة في محكمة الشعوب العربيّة والإسلاميّة.

ولكنّ الغاية هنا ليست المحاججة أو بيان فساد رأيِ مَن يروّج للتطبيع بذريعة أنّ غيرَه سبقه إليه، وكأنّ ذلك علةٌ صحيحة تحلّلُ له فعلتَه، إنما الغاية إظهار الفرق بين خطورة المطّبعين السابقين والمطبّعين الجُدد.

ليس من خلاف على أنّ محطات التطبيع المذكورة سالفًا تورّطتْ فيها أنظمة أو منظمات رسميّة، وأنّ العلاقات المنبثقة عن الاتفاقيات التي أبرَمتها الحكومات العربيّة أو منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال بقيت في الدوائر الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة الرسميّة، مع ملاحظةِ أنّ هيئاتٍ وشخصياتٍ شعبيّةً قليلةً اقتفَت أثرَ الحكوماتِ، وولغَتْ من إناء التطبيعِ النّجِس نفسه، ولكنّ جلّها إن لم يكن كلّها يدور في فَلَكِ تلك الحكومات؛ ولذلك نلاحظ أنّ السواد الأعظم من الشعوب العربيّة والإسلاميّة بقي في مأمن من شرور التطبيع، وظلّ رافضًا له، مقاومًا لمسوّقيه.

تظاهرَت الأنظمة العربية أنّها ما زالت تدعم القضيّة الفلسطينيّة، على الرغم من افتضاح أمر بعضها في دعمه المباشر لهذه الأنشطة والإنتاجات التطبيعية

لقد جاءت هذه الموجة من التطبيع لتحقّق ما لم تستطع الموجة السابقة تحقيقه؛ فقد كثّفت استهدافها لجدار الشعوب، بعدما ثبتَ أنّ تطبيع العلاقات مع الأنظمة الرسميّة لا يكفي لتوفير بيئة عربية وإسلامية مستعدةٍ للقبول بوجود الاحتلال الإسرائيليّ؛ ولذلك كانت الوسائل المستخدمة في هذه الموجة التطبيعيّة شعبيةً وبسيطة وفكاهيّة وجذّابة كما تحبّ الشعوب عادة، وكانت ميادينها الفنّ والرياضة والدراما وغيرها من الميادين التي تستقطب أعرض الشرائح الشعبيّة.

لنعترِفْ أنّ شيئًا من أهداف جماعة التطبيع قد تحقّق؛ فقد أصبح التطبيع قضية رأي عام تُناقَش على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعيّ، والمنتديات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وهؤلاء يعوّلون على اعتقادهم بأنّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة تنتفض في بداية الأمر انتفاضةً انفعاليّةً رافضة لما يصادمُ خياراتها وآرائها، ثمّ سرعان ما تبردُ جمرةُ الانفعال، وتتلاشى مناعة الرفض شيئًا فشيئًا في جسد الشعوب، وتصبح أكثر تكيُّفًا مع فيروس التطبيع، وأكثر قابليةً لما كان سابقًا غير مقبول. وهنا مكمن التحدّي الذي يواجه جبهة الرافضين للتطبيع؛ فقد اعتادوا سابقًا أنْ تتركزَ جهودهم على مواجهة السياسات الرسميّة التطبيعيّة بالعموم، أمّا اليوم فقد تسرّب هذا الداء إلى ميدانهم الحاضن لهم، أي إلى الشعوب، والمعركة الحقيقية في هذه المرحلة هي معركة الوعي لتعزيز المناعة السياسيّة والأخلاقيّة والقِيميّة لدى الشعوب، بما يُعِينُها على التصدّي لكلّ هذا السّمِّ التطبيعيّ المبثوث في فضاء الإعلام والفنّ والرياضة والاقتصاد والقيم التي يُراد لها أنْ تُحرَّف عن مواضعِها الأصيلة تحت ستار "التسامح"، و"وحدة الأديان"، و"الإنسانيّة الجامعة".

هذه الثقة لا تكفي وحدها في المعركة المحتدمة لاغتيالِ وعيِ الشعوب وذاكرتها وهُويّتها، بل لا بدّ من عُدّة وأسلحةٍ أخرى شديدة الفعالية ضدّ هذه الطبعة الجديدة المُطوَّرَة من التطبيع

لأسباب كثيرة يضيقُ ذكرُها في هذه المقالة، ندعو في خطابِنا دَوْمًا إلى الثقة بشعوب أمتنا، وليس ذلك من قبيل الشعارات، بل قناعة راسخة جذورها في تربة تلك الشعوب الدينيّة والاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة، ولكنّ هذه الثقة لا تكفي وحدها في المعركة المحتدمة لاغتيالِ وعيِ الشعوب وذاكرتها وهُويّتها، بل لا بدّ من عُدّة وأسلحةٍ أخرى شديدة الفعالية ضدّ هذه الطبعة الجديدة المُطوَّرَة من التطبيع، ومنها: التوعيةُ بمخاطره على الأمة كلها وليس على فلسطين وحدها، وتوضيحُ المشاريع التي تستهدف العالم العربيّ والإسلاميّ لإبقائه مفتتًا وممزقًا وغارقًا بدماءِ الفتن ليبقى الاحتلال الإسرائيليّ في أمان وسلام، وتعبئةُ الشعوب بمكانة فلسطين الدينيّة والتاريخيّة والحضاريّة، وتأصيلُ حُرمةِ التفريط بأيّ جانبٍ من جوانب الحقّ العربي والإسلامي حرمةً دينيةً وأخلاقيةً ومبدئيّةً، ونبذُ كلّ من يتلطخ فكره بالتطبيع، إنّ كسرَ موجةِ التطبيعِ هذه مرهونٌ بتعزيز المناعة المتعدّدة الأشكال والمستويات لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة، ولا يتأتّى ذلك بأمانيِّ أنصار الحقّ العربيّ والإسلاميّ المقدّس في فلسطين، بل بالعمل الدؤوب الصادق لتسليحِ أبناء الأمة بما ذكرْنا من عُدّة وعتاد. وحين نبذل غايةَ وسعنا في هذه المعركة، ستتكسّرُ تلك الموجةُ، وترتدُّ زَبَدًا يذهب جُفاء، لتبقى فلسطينُ الحقيقةُ ماكثةً في الوجدانِ لأنّها تنفعُ النّاس ببركتِها وقدسيّتها.

هشام يعقوب

مدير الأبحاث في مؤسسة القدس الدولية