العدد 1427 / 9-9-2020
بقلم: أسامة أبو ارشيد

في كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث"، يستعيد مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، حواراً جرى بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، شكك فيه الأخير في قدرة مستشار الرئيس دونالد ترامب، وصهره، ومسؤول ملف الشرق الأوسط جاريد كوشنر، على تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ومحيطها العربي. وحسب بولتون، فإن نتنياهو تساءل: "ما الذي يجعل كوشنر يعتقد أنه سينجح في أمرٍ فشل فيه (وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر)؟".

اليوم، يثبت هذا "الفتى الفارغ"، كما كان يصفه وزير الخارجية السابق ريك تيلرسون، أنه قادر فعلاً على تحقيق ما عجز عنه كيسنجر، ولكن ذلك ليس نتيجة ذكاء خاص يتمتّع به، أو إدراكٍ عميق لديه لطبيعة الصراع وكينونته، بقدر ما أن الأمر متعلق بقدرات ترامب ومزاجه النفسي، وبطبيعة بعض القادة العرب الجدد الذين يتعامل معهم كوشنر، ويرجون ودّه ورضاه.

في كلمته في المؤتمر الصحافي المشترك في البيت الأبيض، في 28 كانون الثاني الماضي، يوم إعلان ترامب ما سمّاها "رؤيته" للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أطنب نتنياهو في مديح الرئيس الأميركي. كان الأوْلى به أن يوجه ذلك الثناء والتقريظ، إسرائيلياً، إلى الرجل الذي يقف فعلاً وراء تلك "الرؤية"، والتي أعطت إسرائيل كل شيء، وحرمت الفلسطينيين من أقل حقوقهم، كالسيادة والقدس والحدود والأرض والمياه والأمن.

ذلك الرجل هو كوشنر. ومع أن نتنياهو لم ينس أن يشير إليه ويشكره في معرض كلمته، من دون أن يستغرق في ذلك، فالمقام لم يكن يسمح بدغدغة نرجسيةٍ أخرى غير نرجسية ترامب حينها، إلا أنه حصل على فرصةٍ أخرى ليعطي كوشنر بعض حقه إسرائيلياً. سارع مكتب نتنياهو، بعد الكشف عن بعض ما يحويه كتاب بولتون، قبل نشره، ومن ذلك قصة الحوار بينهما حول قدرات كوشنر، إلى إصدار بيان في حزيران الماضي، نسب فيه إليه "الفضل" في صياغة خطة ترامب للسلام، والمساهمة في قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية، وتعزيز العلاقات الإسرائيلية مع العالم العربي. "بهذه الإنجازات فقط، وتحت قيادة الرئيس ترامب، حقق كوشنر ما لم يحققه آخرون من قبله.

شكّك كثيرون في إمكانية نجاح كوشنر، حيث فشل غيره، وغمز كثيرون من زاوية ذكائه، بل يتناقل بعضهم نكتة مفادها أن لكوشنر ثلاثة "نجاحات" في حياته فحسب، مقابل إخفاقات كثيرة، سواء على صعيد الدراسة أم عالم الأعمال. تلك النجاحات الثلاثة، هي: أنه ولد لعائلة ثرية، أنه تزوج إيفانكا ابنة ترامب، وأن ترامب أصبح رئيساً للولايات المتحدة، وهو ما جعل من كوشنر المستشار الأكثر تأثيراً في الإدارة الأميركية. إذا اتفقنا مع قصة "النجاحات" الثلاثة تلك، فإنها تكون قدرية، بمعنى أنها لم تكن حصيلة إنجازات، وإنما مكتسباتٌ توفرت للرجل. ولكن تحويله إدارة ترامب إلى قناة لتمرير أجندة اليمين الصهيوني المتطرّف، وهو ما يتجاوز الانحياز والتواطؤ اللذيْن ميزا سلوك الإدارات الأميركية السابقة لصالح إسرائيل، وتمكّنه أيضاً من إقناع بعض القادة العرب الجدد بأن إسرائيل حليفٌ موثوقٌ وتمثل أقصر الطرق إلى قلب سيد البيت الأبيض، يعدّان نجاحيْن باهريْن أنجزهما باقتدار، ولم يأتيا عرضاً أو مصادفة. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضاف هنا، وسبقت الإشارة إليه، أنهما إنجازان ما كانا ليتحققا لولا شخصية الرئيس الأميركي الضحلة، وطبيعة بعض القادة العرب الجدد الذين يدينون لكوشنر بالكثير، إذ إنه وسيطهم ومحاميهم لدى ترامب.

إذا فهمنا السياقين السابقين، يمكن أن نفسر جانباً مهماً في تهافت زعماء دول، كالإمارات والبحرين والسعودية والسودان، على إقامة علاقات مع تل أبيب، حتى ولو كان ذلك على حساب الفلسطينيين والعرب، والمقاربة الأمنية الجمعية للمنطقة كلها. خذ، مثلاً، السعودية، التي سمحت للطائرة الإسرائيلية التي أقلت الوفدين، الإسرائيلي والأميركي، إلى أبوظبي، بالمرور عبر أجوائها قبل أيام. محمد بن سلمان، ولي العهد والحاكم الفعلي للبلاد، مدينٌ في نجاحه في انقلاب القصر على ابن عمه محمد بن نايف، عام 2017، إلى ترامب. وهو كذلك مدينٌ له في نجاته من تبعات اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، عام 2018. في موضوع انقلاب القصر، لم تكن الوكالات الأميركية السيادية في الخارجية والدفاع والاستخبارات متشجعة له، ولكن ترامب لم يعبأ بتحفّظاتهم. وفي جريمة قتل خاشقجي، لم يتردّد ترامب في ازدراء تقديرات أجهزة بلاده الاستخبارية بأن بن سلمان يقف وراء العملية بشكل مباشر، بل إنه رفض محاولات الكونغرس فرض عقوبات عليه، ونجح في تعويقها. وهذه ليس تخرّصات ولا استنتاجات، وإنما معطيات نشرت في كتب عدة، وتحقيقات صحافية أميركية كثيرة.

كوشنر هو الشخصية المركزية هنا. مثلاً، تكشف الرسائل (الإيميلات) التي تمَّ تسريبها من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، عام 2017، أن الإمارات لعبت دوراً أساسياً في تسويق محمد بن سلمان عند بعض مساعدي ترامب، وخصوصاً كوشنر. أيضاً، نعلم اليوم أن الحصار الذي فرضته كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر عام 2017، ما كان ليتم لولا نجاح بن سلمان وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد في كسب كوشنر إلى صفهما، وبالتالي ترامب، في حين عارضت ذلك وبقوة وزراتا الخارجية والدفاع الأميركيتان. ولا تخفي الأجهزة الاستخباراتية الأميركية امتعاضها من تواصل كوشنر وابن سلمان، مثلاً، عبر تطبيق واتساب، بل إنها تشكّ بأنه يسرّب له معلومات حساسة أحياناً.

وقد كشف موقع إنترسبت الأميركي، في آذار 2018، أن محمد بن سلمان قال متباهياً عن كوشنر: "وضعته في جيبي"، كناية عن السيطرة عليه. الحقيقة أنه هو وبن زايد، ومن سار وراءهما، في جيب كوشنر. لقد نجح في تحقيق اختراقاتٍ إسرائيليةٍ وأميركيةٍ جديدة غير مسبوقة في الموقف العربي. ومعلوم أن كوشنر ينتمي لعائلة يهودية صهيونية يمينية متشدّدة.

ما نشهده اليوم هو محاولات جادّة لاجتثاث الأمن القومي العربي من جذوره، بعد أن كان قد تمَّ تحطيم جدرانه على فتراتٍ في مراحل ماضية. وما يقوم به بعض القادة العرب الجدد هو رهن لمستقبلنا جميعاً في سبيل بقائهم على كراسي حكم وهمية، لا تستقرّ إلا برضى ودعم خارجيين. المشكلة أن أميركا وإسرائيل لا عهد لهما، وليس أسرع من أن تُخْفَرَ ذمتهما عند أول امتحان، ولكن بعض قومنا لا يتعلمون، والنتيجة أننا كلنا خاسرون. هذه المرّة، جاءت الهزيمة على يد "الفتى الفارغ" الذي اكتشف أن لإصبعه سحراً عند بعض العرب، فأكثر من هزّه في وجوههم، فأعطوه ما يريد وأكثر، وهم يحسبون أنه في "جيوبهم"!