حسين عبد العزيز

شهدت الساحة العسكرية السورية خلال الأعوام السابقة متغيّرين رئيسيّين، ساهما في تعديل مسار الصراع المحلي والإقليمي والدولي داخل سوريا. تمثل المتغير الأول في التدخل العسكري الروسي، بينما تمثل المتغير الثاني في اتفاق مناطق تخفيض التوتر.
وإذا كان المتغير الأول قد صبّ في صالح النظام بالمجمل على حساب المعارضة، فإن المتغير الثاني يتجه لصالح المعارضة أكثر من النظام، وإن بدت الساحة العسكرية في الظاهر تشي بانتصارات للأخير.
ذلك أن المتغير الثاني فتح الباب واسعاً لصراع النفوذ الإقليمي/الدولي على سوريا، وهو صراع في مضمونه يقلص قوة النظام بالمعنى الاستراتيجي، رغم المساحات الجغرافية التي يسيطر عليها.
المشهد العسكري
أنهى التدخل العسكري الروسي في سوريا مرحلة الصراع الحاد بين النظام وفصائل المعارضة، مع إزالة خطر الأخيرة وإبعادها عن المناطق التي تعتبر حيوية بالنسبة إلى النظام في حلب واللاذقية وحمص، ليبقى الصراع محصوراً في مناطق أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية.
غير أن هذا التحول استلزم إعطاء فصائل المعارضة موقعاً جغرافياً عبر تركيا يحمي المصالح التركية في سوريا، ويحمي تلك الفصائل، كما يحمي قوات النظام ما دام هدف منطقة «درع الفرات» ليس محاربة قوات النظام بل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ومنع إقامة تواصل جغرافي بين الكانتونات الكردية الثلاثة.
مع تحقيق هذه المرحلة أهدافها، بدأت روسيا البحث عن هدنة عسكرية تثبت الإنجازات السابقة وتفتح الباب لمرحلة جديدة من الصراع، لكن التدخل الأميركي العسكري البطيء في سوريا فتح أعين الكرملين على الأهداف الأميركية في الشرق والجنوب السوري، فسارعت موسكو إلى احتواء هذا التدخل بالتفاهم معها على إقامة مناطق خفض التوتر.
 استغل الروس الفهم الأميركي للواقع العسكري السوري الذي يقوم على مبدأ أن صراع النظام/المعارضة يقوي تنظيم الدولة، إما على طريقة المعارضة التي ترفض وقف قتال النظام والانتقال إلى محاربة التنظيم، أو على طريقة النظام الذي يُقدم على تفاهمات غير مباشرة مع التنظيم تصب ضد المعارضة وتسمح للتنظيم بالتمدد.
ويمكن القول إن اتفاق مناطق خفض التوتر -الموقّع في بداية أيار الماضي- شكل المتغير العسكري الثاني في المشهد السوري، لينتقل الصراع على أثره إلى الشرق والجنوب، إنه الصراع على تركة تنظيم الدولة بعدما كان الأخير خلال الأعوام الثلاثة الماضية بعيداً عن معارك النظام/المعارضة.
نجح النظام في السيطرة على مساحات جغرافية في ريف حلب الشرقي من يد التنظيم، ليسارع التمدد في اتجاهين: الأول نحو الشرق في عمق محافظة الرقة جنوبي نهر الفرات، والثاني في صحراء حماة على امتداد محافظة حلب والرقة، ونقاطه المهمة متمثلة في طريق أثريا/خناصر/الرصافة.
ونجح أيضاً في السيطرة على مناطق واسعة في القلمون الشرقي، الذي يمثل الشريط الجغرافي الفاصل بين البادية شرقاً والقلمون الغربي على الحدود السورية/اللبنانية، ثم التوسع في بادية السويداء. وفي الشرق؛ وقفت قوات النظام على الحدود مع العراق ضمن مسار عسكري يضع في أهدافه محافظة دير الزور، التي يبدو أن مصيرها حُسم لصالح النظام مع إعطاء المعارضة ربما حصة جغرافية بسيطة.
في مقابل هذه التطورات التي جاءت لصالح النظام؛ حققت فصائل المعارضة إنجازات عسكرية مهمة، فلأول مرة تحصل فصائل على دعم أميركي مباشر، تمثل في قواعد التنف والزقف والشدادي.
بعبارة أخرى، ستتم إعادة تكرار التجربة التي حدثت في حلب: النظام له حصته الجغرافية والمعارضة لها حصتها الجغرافية، وبين هاتين الحصتين يجري الصراع بين النظام والمعارضة كما يحدث الآن في بعض مناطق البادية. لكن الجديد في هذه المرحلة هو إبعاد الأطراف الإقليمية خصوصاً إيران إلى الصف الخلفي، أي لن تتكرر تجربة العرقلة الإيرانية في درعا، ولذلك استبعد اتفاق الجنوب عن اجتماعات أستانا.
خصوصية الجنوب السوري بحكم تلاصقه الجغرافي مع الأردن وإسرائيل، هو الذي أدى إلى هذا الاتفاق الخاص. ويمكن التأكيد بمزيد من الثقة أن شكل ومضمون اتفاق الجنوب -عندما ينجز بصورة نهائية- سيحدد ماهية الصراع في عموم الشرق السوري، ومدى التفاهم الروسي/الأميركي في عموم سوريا.
ذلك أن هذا الاتفاق ليس مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، وإنما يتعدى ذلك إلى إجراء ترتيبات شبه مستدامة تؤسس لمرحلة ما بعد المعارك، مثل المساعدات الإنسانية، وفتح المعابر الحدودية التي قد تتطلب إشراك النظام فيها، تمهيداً للتسوية الكبرى.
باختصار، شكل اتفاق الجنوب ذروة التفاهم الروسي/الأميركي، وكشف أن التسويات الهامة لا تُعقد إلا بحضور هاتين الدولتين؛ إنه اعتراف أميركي بالدور الريادي لروسيا في سوريا، واعتراف روسي بأن أي اتفاق يحقق صفة الاستدامة لا بدّ من أن توقع عليه واشنطن، إنه صراع وتقاسم النفوذ.
صراع النفوذ
مما لا شك فيه أن انتهاء مرحلة الصراع بالوكالة والانتقال إلى مرحلة صراع النفوذ المباشر بين القطبين الدوليين، فرض وقائع سياسية وعسكرية مغايرة تماماً للمرحلة السابقة.
يمكن ملاحظة التركيز الأميركي على فصائل المعارضة السورية، بعد أن كان دعمها مقتصراً على الوحدات الكردية بداية الأمر، ثم على قوى عربية لها نفس الأهداف كما هو الحال مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) وغيرها.
إن الدعم الأميركي المتزايد للجيش السوري الحر مرتبط في جزء منه بمعطيات الجغرافيا العسكرية، ولكنه في جزء آخر مرتبط بالمرحلة المقبلة، فإذا كانت مرحلة محاربة تنظيم الدولة تتطلب تركيز الدعم على «قسد»، فإن مرحلة ما بعد تنظيم الدولة تتطلب حسابات وخيارات أوسع من «قسد».
 وليس من قبيل الصدفة أن يترافق إعلان اتفاق الجنوب مع تصريحات أميركية حول مصير الأسد. ورغم أنها تصريحات عامة تحمل معاني كثيرة، فإنها توضح مسألتين هامتين: الأولى أن مصير الأسد لا يمكن أن يقرر بمعزل عن روسيا، والثاني أن الأولوية الأميركية الآن ليست للمسار السياسي (جنيف)، وإنما للمسار العسكري الذي سيخدم في ما بعد المسار السياسي.
ثمة مقاربة أميركية جديدة هنا ومختلفة عن مقاربة إدارة أوباما التي فصلت بين المستويين السياسي والعسكري، أي أن ما يجري على أرض الواقع لا يمكن ترجمته سياسياً، بينما ترى إدارة دونالد ترامب عكس ذلك، فما ينجز على الأرض سيحدد شكل التسوية السياسية.
هنا تكمن الأزمة السورية في حقيقتها؛ فصراع النفوذ القائم غير منعزل عن التسوية السياسية المنتظرة. لكن هذه المهمة ليست باليسيرة على واشنطن وموسكو، فللوصول إلى تلك المرحلة يتطلب الأمر ترويض إيران مع الحفاظ على مصالحها، ولا يمكن تحقيق ذلك في بداية التفاهمات الروسية/الأميركية، بل على مستويات متدرجة وبطيئة، فموسكو لن تتخلى عن حليف قوي على الأرض قبيل اكتمال التفاهمات مع الولايات المتحدة.
إن تقاسم النفوذ الروسي/الأميركي قد يساهم في إنهاء الصراع العسكري، والتمهيد لمسار سياسي ينتهي بحل يكون انعكاساً للواقع على الأرض، لكن هذا التقاسم ستكون له تبعات استراتيجية على موقع سوريا الجغرافي مستقبلاً.}