عبد الستار قاسم

لم يفاجئ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أحداً عندما غرّد ضد استمرار المساعدات المالية لسلطة فلسطين، إذ كان من المتوقع أن تقوم الإدارة الأميركية بهذه الخطوة. ومن الوارد جداً أن يمتنع الكيان الصهيوني عن تحويل أموال الضرائب والجمارك التي يجبيها على البضائع المستوردة لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.
وقد سبق لأميركا والصهاينة والأوروبيين أن أوقفوا المساعدات المالية والضخ المالي بهدف إخضاع السلطة وإجبارها على تلبية بعض المتطلبات، وكانت السلطة تستجيب في النهاية وتلبي ما يطلبون.
فمثلاً، توقف الضخ المالي للسلطة بعد تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الدكتور سلام فياض، وذلك بعد اتفاق مكة المكرمة. والنتيجة كانت أن انهارت الحكومة وأُخرجَت حماس من المعادلة، وتشكلت حكومة وفق المقاييس الصهيونية والأميركية، فعاد المال. وتكرر هذا المشهد خاصة عندما كانت تشذ السلطة بعض الشيء عما هو متوقع منها، وكان الخضوع للابتزاز هو السائد.
الخلل فلسطيني بالأصل
هل كان يعلم المفاوض الفلسطيني أن الترتيبات المالية والاقتصادية التي ترتبت عن اتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي ستشكل حبال مشنقة تلتف حول رقاب الفلسطينيين؟ بالتأكيد كان يعلم لأن الأمر بسيط جداً على الإدراك الإنساني حتى ولو كان الإنسان طفلاً.
«هل كان يعلم المفاوض الفلسطيني أن الترتيبات المالية والاقتصادية التي ترتبت عن اتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي ستشكل حبال مشنقة تلتف حول رقاب الفلسطينيين؟ بالتأكيد كان يعلم لأن الأمر بسيط جداً على الإدراك الإنساني، حتى ولو كان الإنسان طفلاً فمَن في الأرض يضع لقمة خبز شعبه بيد أعدائه؟».
ارتكبت القيادة الفلسطينية خطيئة لا تغتفر بحق الشعب الفلسطيني، وركبت رأسها معاندة كل الأصوات الوطنية التي جفت حناجرها وأقلامها وهي تحذر من عواقب الترتيبات الاقتصادية والمالية. ولم تتريث سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في توسيع إداراتها المختلفة، وزيادة أعداد الوظائف العامة بصورة مذهلة وأكبر بكثير مما يحتاجه الشعب لإدارة شؤونه.
وهذا يعني أنها رفعت بصورة حادة أعداد الموظفين الحكوميين الذين يعتمدون في رواتبهم على المساعدات المالية الخارجية، الذين يشكلون عناصر ضغط على السلطة إذا توقف تدفق المال.
وتابعت السلطة سوء تصرفها بفتحها أبواب الأراضي المحتلة عام 1967 للاستيراد، وتدفقت بضائع الصين وتركيا والهند وغيرها على حساب المنتج المحلي. وبسبب انخفاض أسعار البضائع المستوردة، تعطل العامل الفلسطيني مثل النجار والحداد والنعال والنساج والخياط والفلاح.
أي إنه تم رفع عدد الناس الذين يعتمدون على الراتب، والحد كثيراً من عدد الناس المنتجين، وحل الاسترخاء وراء المكاتب مكان عرق الجبين الذي كان يجب أن يكون شعاراً يومياً يشجع الشعب على العمل والإنتاج.
تهديد الرئيس الأميركي ومحبوبته مندوبة أميركا في الأمم المتحدة تحصيل حاصل، ولا جديد فيه، فلم تكن الأموال الأميركية يوماً إحساناً لوجه الله تعالى، وإنما كانت مكافأة للذين تنازلوا عن وطنهم وخاصة الأرض المحتلة عام 1948، وعنصر ضغط لضمان سير الفلسطينيين سياسياً وأمنياً وفق إرادة العدوّ المتمثل في الصهاينة والإدارة الأميركية.
قطع المساعدات خير
ولهذا سيصنع الأميركيون خيرا مع الشعب الفلسطيني إن هم توقفوا عن تقديم المساعدات المالية، وذلك لسببين هما:
1- من الثابت على المستوى العالمي أن الشعوب التي تعتمد في تسيير عملها على الدعم المالي الأجنبي تعتاد الكسل والتواكل والاعتماد على الآخرين. وإذا كان الشعب كسولاً ومتواكلاً فإنه سرعان ما ينفرط عقده فيتفكك اجتماعياً ويتدهور أخلاقياً، وتحل العلاقات بين الناس وبين الحاكم والمحكوم القائمة على الشك المتبادل مكان العلاقات القائمة على الثقة المتبادلة.
وهذا يؤدي إلى تدهور قيم العمل الجماعي والتعاون المتبادل التي تعتبر مركزية في تحقيق أي إنجازات عامة، فإذا توقف الدعم المالي الأميركي فإن الضيق المالي سيدفع الفلسطينيين إلى الجبال والسهول لحراثتها وزراعتها والاستفادة منها بالصورة الأمثل. وسيدفعهم أيضاً إلى تشجيع الإنتاج المحلي على حساب البضائع المستوردة. وإذا حصل ذلك، فإن مئات آلاف فرص العمل ستتوفر. طبعاً لن ينقل هذا الشعبَ الفلسطيني إلى حياة الرفاه والاسترخاء.
2- أغلب المساعدات المالية الأميركية يتم تخصيصها للأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي هي في الغالب لا ضرورة لها. الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بحاجة فقط إلى جهاز الشرطة للحفاظ على الأمن المدني، أما باقي الأجهزة الأمنية -التي من المفروض أن تحافظ على الأمن الوطني- فلا ضرورة لها، لأنها لا تستطيع الدفاع عن الأمن الوطني الفلسطيني.
وهي أجهزة مكشوفة أمام الاحتلال ومقراتها معروفة وتشكل أهدافا سهلة لجيش الصهاينة.
وسيرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في هذا المجال واضحة للعيان ولا تحتاج إلى اجتهادات ومبررات. وإذا توقفت الأموال الأميركية عن هذه الأجهزة فإن في ذلك فائدة للشعب الفلسطيني، والحديث هنا هو عن أجهزة وليس عن أفراد لأن أغلب أفراد الأجهزة الأمنية وطنيون، وينتظرون الفرص المناسبة للدفاع عن شعبهم.
سقف العقوبات الأميركية
هناك من يستنجد بالعرب والمسلمين من أجل تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، لكي تتمكن من القيام بمهماتها الإدارية وتغطية النفقات الجارية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تتلقى دعماً مالياً مباشراً من عدد من البلدان العربية، لكن اتفاق أوسلو حرم السلطة الفلسطينية هذه الأموال وحولها إلى مجموعة الدول المانحة.
لكن هل يمكن أن تجرؤ أنظمة عربية على تقديم مساعدات مباشرة للسلطة الفلسطينية إذا كانت أميركا غاضبة؟ ليس من السهل على الأنظمة العربية تحويل أموال إلى السلطة في هذه الحالة، خاصة أنها مرتبطة بالنظام المالي العالمي المراقب بشدة من قِبل الأجهزة المالية والأمنية الأميركية.
ويمكن ألا تستشير البلدان العربية أميركا إذا أرادت تقديم مساعدات للفلسطينيين، لكن آليات النظام المالي يمكن أن تمتنع عن تحويل الأموال، ولا حيلة بعد ذلك للعرب إلا التهريب إذا كانت لديهم الشجاعة لسلوك هذا الطريق.
للكيان الصهيوني وخاصة في المجال الأمني، إذ لا شك أن النشاطات الأمنية الفلسطينية قد أراحت الاحتلال كثيراً، وجعلته احتلالاً سهلاً وميسراً.
وبدل أن تبقى الأجهزة الأمنية الصهيونية مستنفرة وواقفة على رؤوس أصابع أقدامها، هناك بديل فلسطيني يراقب ويتابع ويعتقل ويفكك خلايا المقاومة.. إلخ. وإذا توقفت السلطة عن تقديم هذه الخدمات فإنها تحكم على نفسها بالتوقف عن العمل، وعندها لن يكون الكيان بحاجة لها، وسيصبح رحيلها أمراً محتوماً.
وعليه فإن المساعدات المالية الأميركية مرتبطة بالخدمات التي يستفيد منها الكيان الصهيوني، واستمرار وقفها مرتبط بالمصير الذي ينتظر السلطة، أي أن وقف المساعدات سيتوقف على تهديد ذلك لمصير السلطة الفلسطينية وهل سيؤدي إلى انهيارها.
والدفاع عن الأمن الصهيوني مبرر وجود السلطة، ومنه تستمد السلطة استمرارها في العمل. والصهاينة والأميركيون لن يضحوا بالسلطة ما دامت تقوم بالخدمات التي نصت عليها الاتفاقيات. ولهذا لن يكون الأميركيون سعداء إن انهارت السلطة.
والحكمة تدعو السلطة إلى إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية السياسية والثقافية والاجتماعية والوطنية بطريقة تنتهي إلى خيبة أمل الأميركيين والصهاينة، وعلى رأس ذلك إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل مظلة للكل الفلسطيني.}