العدد 1418 / 24-6-2020

لعلَّ هذه الأيام بل الساعات التي يمر بها الشعب السوري الآن من أكثر الأيام حرجاً وضيقاً بعد ان ساهم النظام في ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية، بعد خيانة الحركة الوطنية اللبنانية، ووقوفه، قبل ذلك، متفرّجاً على مليشيا اليمين اللبناني، حلفاء الإسرائيليين خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وهم يرتكبون الفظائع بسكان تل الزعتر، بعد أن حاصره الجيش السوري خمسين يوماً، وسكانه "إخوة الدم والمصير".

لعلَّ هذه الأيام بل الساعات التي يمر بها الشعب السوري الآن من أكثر الأيام حرجاً وضيقاً، إذ هي ساعات انتظار حدوث أمرٍ ما، هو حصيلة سياساتٍ خاطئةٍ مورست بحقه خمسين عاماً، وقد تراكمت، وأزف وقت انفجارها لتنذر بشار الأسد وأسرته ونظامه البالي بالرحيل، فالسوريون الآن على عتبة مجاعةٍ لم يشهدوا مثيلاً لها منذ أيام "سفر برلك"، وقد أخذت تعبِّر عن نفسها بمظاهراتٍ في عدد من المحافظات السورية، أهمها السويداء التي بلغ عدد المتظاهرين فيها، يوم الثلاثاء 9 يونيو/ حزيران الحالي، نحو خمسمئة متظاهر طافت معظم أحياء المحافظة الرئيسة .. ناهيكم بوسائط التواصل الاجتماعي، وما تنقله عن الناس من ضيق وتذمر. وحتى وسائط الإعلام السورية الرسمية تنقل أحياناً، ربما عن خطأ أو حرج من بعض ضيوف الفضائية السورية، حالات بؤس الشعب الذي يعاني الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الاستهلاكية، وفقدان الأدوية الأساسية.. يرافق ذلك انهيار اقتصادي، يتجلى بتدني سعر الليرة السورية مقابل الدولار إلى مستوىً لا نظير له، إذ انحدر أكثر من ستين مرة عما كانت عليه قبل العام 2011، وتتراوح اليوم بين 3200 و3500 ليرة سورية للدولار الواحد، أي إن وسطي راتب العامل أو الموظف لم يعد يتجاوز الـ 15 دولاراً. وكشفت صراعات بشار الأسد ورامي مخلوف أنه لا الروس ولا الإيرانيون بقي لديهم ما يدفعونه للأسد. وعلى العكس هم يطالبون بما دفعوه أو بما يعادله أراضي أو ممتلكات سورية أو استثمارات .. إلخ. وكل ما ذكر كوم وقانون قيصر القادم بعد أسبوع واحد فقط كوم آخر تماماً. وبالمناسبة، قانون قيصر هو استحقاق، لا عقوبات استحقاق يفرضه مضمون قرار مجلس الأمن 2254 الذي عرقله الأسد والروس على السواء.

لم يدرك بشار الأسد حقيقة ما حدث في سورية، ولا نظامه، أنَّ الأزمة بنيوية، وجوهرها يكمن في النظام ذاته، فالنظام قائمٌ على القمع والنهب والفساد وتخريب عملية التنمية، بل تخريب سورية كلياً، وهذا ما فضحه صراع الأسد ومخلوف، إذ هو صراع على مال الشعب السوري، وقد فشل النظام في بناء اقتصاد قوي، يقوم على الصناعة والزراعة، بل عمل على تنشيط الاقتصاد الريعي الذي يأتي من قطاع الخدمات، ومن التجارة والتهريب، بما في ذلك الممنوعات، وتوكيلات الشركات الأجنبية، ولتتكون ما تعرف بالبرجوازية الطفيلية التي تمتص قوت الشعب، ولتلتقي مع الاقتصاد الريعي الآخر، أي النفطي وحكوماته، فيشكلان حلفاً أصبح اليوم عائقاً أمام نمو البلاد وتقدّمها وديمقراطيتها، وبالتالي دخولها إلى حضارة اليوم، ولذلك تراهم وقفوا ضد ظاهرة الربيع العربي التي قادها شبابٌ أرادوا التعاطي مع عصرهم وأدواته!

إنها مرحلة انتهت من تاريخ العرب، إذ اتسمت بالهزائم والذل وتبديد ثروات بلادهم وتنمية القوى الظلامية التي أساءت للدين والإنسان والأوطان عموماً .. إنها مرحلة ربما كانت طبيعية في تطور شعوب المنطقة، لكن من قادها بالغ في الظلم والقهر والاستغلال، وهما قطبان رئيسان: العسكر القادمون من الأرياف المغرقة في التخلف، مأخوذين بجلجلة الشعارات التي ارتدوها بيارق وأعلاماً، متحالفين مع عرب آخرين، كانوا قد وجدوا أنفسهم بين عشيةٍ وضحاها يعبثون بثرواتٍ هي أكبر وأعظم من أن يحتملها عقلٌ مؤطر ببيئة محددة. والمهم أن ما حدث في سورية ليس خروجاً عما جرى في المنطقة كلها، بل هو في صلبه، على الرغم من أنه لم يستقر بعد، ولم تظهر منه حتى الآن غير المعاناة، لكن الأمر طبيعي فـ "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" في العمل الثوري ضد الاستبداد المتأصل تعدّ، في المحصلة، خطواتٍ إلى الأمام .. وما يهم أنَّ مسألة التبديل والتغيير التي بدأت مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة مستمرّة، وها هي ذي ليبيا تتعافى، ومثلها تخطو تونس خطواتٍ صحيحة، ولم تثن العراقيل الثورة السودانية عن استمرارها، كما لم يؤثر التدخل الإقليمي في مسار الأحداث الليبية، وأن سياسة التطبيع مع النظام السوري قد فشلت إذ لم تحقق أي تقدّم يذكر، وكذا مواقف معظم دول العالم مع التغيير في سورية. وإذا كانت جائحة كورونا قد أوقفت انتفاضتي العراق ولبنان، فهذا الأمر لن يستمر.

أخيراً، لا حل للمأساة السورية إلا برحيل النظام وأعوانه، إذ لم يعد له من وظيفة غير تثبيت أركان الروس والإيرانيين، فلا رأي له ولا قرار بيده، فهو اليوم ليس أكثر من مظلةٍ للمحتلين الذين جلبهم، وللذيول التي نمت من خلال وجوده ووجودهم .. صحيحٌ أن الأيام أو الشهور وربما السنوات القليلة الأولى سوف تكون صعبةً للغاية، فمخلفات خمسين سنة عجافاً بينها حرب تسع سنوات ليست أمراً عادياً، لكنَّ الأهم أنَّ عجلة الدولة ستأخذ في الدوران في إطار سياسةٍ متوازنةٍ بعيدة عن المحاور، فالشعب السوري الذي عركته الأحداث، وصقلت وعيه، كفيلٌ بمعالجة قضاياه بالحكمة التي اكتنزها من تجاربه الكثيرة المريرة.