عادل سليمان

أطلق شريف مكة، الحسين بن علي، في الثاني من حزيران 1916، طلقةً من شرفة منزله من بندقيته، ما كان بمثابة إعلانه انطلاق «الثورة العربية الكبرى» ضد دولة الخلافة العثمانية. وكان الشريف حسين قد بدأ اتصالاته من بداية العام نفسه مع بريطانيا العظمى، عبر معتمدها في القاهرة السير هنري مكماهون، وهي الاتصالات المعروفة بمراسلات حسين - مكماهون، التي بدأت باستعداد الشريف حسين للانضمام إلى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وقيادة ثورة عربية كبرى ضد العثمانيين، لطردهم من شبه الجزيرة العربية، والشام الكبرى، والعراق، وإقامة دولة أو اتحاد لدول عربية، يحكمها هو وأولاده، في مقابل الاعتراف به خليفة عربيا للمسلمين. 
وعلى الرغم من مراوغات مكماهون، وعدم قطعه وعوداً محدّدة، إلا أن الشريف حسين مضى في «ثورته العربية الكبرى»، وأعلن قيام «مملكة الحجاز الهاشمية»، وأعلن نفسه ملكاً عليها في 1916، واستمرت تلك المملكة قائمةً على الرغم من انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتطبيق اتفاقية سايكس – بيكو، وتقلص طموحات الخلافة لدى الشريف حسين، التي انتهت إلى تعيين ابنه فيصل ملكاً على العراق تحت الاحتلال البريطاني، وتعيين ابنه عبد الله ملكاً على إمارة شرق الأردن تحت النفوذ البريطاني أيضاً، بينما تم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. 
وبقيت مملكة الحجاز الهاشمية، حتى عام 1925، عندما تمكّن الملك عبد العزيز آل سعود الذي  أسّس مملكة نجد، من ضم الحجاز وتكوين مملكة نجد والحجاز، وغادر الشريف حسين إلى إمارة شرق الأردن، ومنها إلى قبرص التي نقله إليها الإنكليز، بدعوى حمايته من تهديد ابن سعود بالزحف على العقبة، وانتهى أمر شبه الجزيرة العربية بنجاح ابن سعود في ضم الأحساء والقطيف إلى مملكة نجد والحجاز، وإعلان قيام المملكة العربية السعودية في  أيلول 1932. 
كانت تلك أولى تجليات «الوحدة العربية»، وبداية إرهاصات «القومية العربية»، التي انهارت  تحت صخرة الاستعمارين، البريطاني والفرنسي، والمشروع الصهيوني في فلسطين، والذي ظهرت بوادره بوعد بلفور عام 1971 من ناحية، والصراعات العربية - العربية بين الهاشميين في الحجاز، وآل سعود المدعومين بالحركة الوهابية في نجد، والتشرذم العربي عموماً، من ناحية أخرى. 
بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفشل مشروع الثورة العربية الكبرى، وخضوع المنطقة العربية للتقسيم أو إعادة الهيكلة، طبقاً للخطوط العريضة التي حدّدتها اتفاقية سايكس - بيكو، توارت فكرة الوحدة العربية، أمام تصاعد تيارات النضال الوطني، سعياً إلى الاستقلال والتحرّر من ربقة الاحتلال الأجنبي، وتعدّدت القضايا الوطنية، فكانت هناك القضية الوطنية المصرية والسورية والعراقية والفلسطينية، وقضايا دول المغرب العربي، وغير ذلك من القضايا الوطنية القُطرية. ولكن الأمور لم تبق على تلك الحال طويلاً، وكانت البداية في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن الماضي، بظهور تياراتٍ قومية على يد مجموعاتٍ من الشباب الدارسين في الجامعة الأميركية في بيروت من جنسيات عربية مختلفة، وشباب من الدارسين في جامعة السوربون الفرنسية، وكان أبرز تلك التيارات حركة الإحياء العربي التي نشأت في دمشق على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار عام 1941، وتطوّرت إلى حركة البعث العربي في عام 1943. وفي الفترة نفسها، كانت هناك حركة مقاومة عربية للمشروع الصهيوني في فلسطين ساهمت في إيقاظ الشعور القومي العربي. 
أدركت بريطانيا، بحكم خبرتها الاستعمارية الطويلة، خطورة تنامي تلك التيارات القومية، التي بدأت تنتشر في المنطقة، خصوصاً مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن واليمن.. وغيرها. وفكّرت في احتواء تلك التيارات داخل تنظيم رسمي «يمكن متابعته والتأثير عليه»، وكان أول من تحدّث في تلك الفكرة وزير الخارجية البريطاني، أنتوني إيدن، في عام 1941، ومن هنا، جاءت وتبلورت فكرة تأسيس جامعة الدول العربية، وهو ما تم عام 1945، وضمت الدول العربية المستقلة في ذلك الوقت، وهي سبع: مصر وسورية ولبنان وشرق الأردن والسعودية واليمن والعراق (22 دولة حالياً). 
لم يؤثر تأسيس جامعة الدول العربية على تنامي التيارات القومية، فقد تطورت حركة البعث العربي في سورية إلى حزب البعث العربي، ثم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي بعد اندماجه مع الحزب الاشتراكي، برئاسة أكرم الحوراني. وامتد نشاطه إلى العراق ولبنان وفلسطين والأردن واليمن، كما نشأت حركة القوميين العرب في أعقاب نكبة فلسطين 1948. وبدا الأمر كأن حلم الوحدة العربية استيقظ من جديد، في ظل ذلك الحراك التنظيمي، على المستويين الرسمي والسياسي العام.
ولكن، للأسف الشديد، تمخضت كل تلك التنظيمات عن مجموعة من الشعارات الجوفاء على شاكلة «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة» و«وحدة، حرية، اشتراكية»، وهي شعارات حزب البعث، ثم جاءت حقبة الانقلابات العسكرية الثورية، وكان في طليعتها حركة الضباط الأحرار في مصر في تموز 1952، وبروز زعامة جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وبدأ يرفع الشعارات القومية والوحدوية في مواجهة «إسرائيل وقوى الاستعمار والامبريالية»، وكانت الوحدة الاندماجية المصرية - السورية في 1958، وقيام الجمهورية العربية المتحدة هي باكورة التوجه العربي القومي الوحدوي. ولكن، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانهارت الوحدة بالانفصال عام 1961، وتوارى حلم الوحدة مرة أخرى، ولكن المثير أن الفكرة ظلت قائمة في ذهن الزعيم وحوارييه، فقام بتطوير التنظيم السياسي الذي كان قائماً في مصر وقتها، وهو الاتحاد القومي، ليصبح الاتحاد الاشتراكي العربي. ووضع له شعار حزب البعث العربي الاشتراكي، ولكن بعد تغيير ترتيب كلماته لتكون «حرية، اشتراكية، وحدة». ثم جرت في الأنهار العربية مياه كثيرة، وسالت في الصراعات العربية - الإسرائيلية، وفي الصراعات العربية - العربية، دماء زكية غزيرة، ولا زالت. 
ويبقى السؤال الملح الآن، الذي على الأمة العربية أن تواجهه بشجاعة، وهو: أين نحن من حلم الوحدة العربية؟ وهل تحوّل إلى مجرد وهم كبير، علينا أن نفيق منه؟ وذلك بعد أن نضع أمامنا حقائق الأوضاع على أرض الواقع، وأهمها: 
يحتل العدوّ الإسرائيلي كل فلسطين التاريخية، بما في ذلك القدس الشريف والمسجد الأقصى، وأراض عربية في سورية ولبنان، ويصرح بأن العرب أقرب إلى صداقته من أي وقت مضى.
أزمة عربية - عربية تتفاقم يوماً بعد يوم، تضرب الخليج بمجلس تعاونه، وهو المنطقة الأكثر أهميةً دولياً وإقليمياً، ومحط أنظار القوى الكبرى وأطماعها، لأنه المصدر الرئيسي للطاقة، ولأنه مكمن الثروات العربية والعالم العربي، بجامعته ومنظماته، يقف عاجزاً، تمزقه الصراعات الداخلية، والانقسامات، والاختراقات الخارجية، الإقليمية، والدولية، إلى حد اختراق الجماعات والتنظيمات الأيديولوجية المتطرفة، بل والمغامرين المتطلعين إلى السلطة والثروة. 
عالم عربي يزخر بقيادات وزعامات، لا تخجل من تولية وجوهها إلى البيت الأبيض، والجالس على عرشه، باعتباره... قُدُس الأقداس.}