يصعب على بعض النخب التي عاشت في كنف العلم الأمريكي المرفوع على المنطقة العربية هضم التوسع الروسي المفاجئ، إلا أن الدراسة التي كتبها الزميل الصحفي عامر عبد المنعم منذ سبع سنوات (التي سبق بها كل النخب التي ما زالت تراهن على الدور الأمريكي) تلقي الضوء على مقدمات الدور العسكري الروسي الحالي. والدراسة وإن لم تتطرق إلى الدور الروسي، إلا أنها تناولت أفول الإمبراطورية الأمريكية بعد غزوها للعراق. 
الدور الروسي الحالي لا يمكن فهمه إذاً إلا على ضوء أفول الإمبراطورية الأمريكية. ربما تكون الإدارات الأمريكية وأجهزتها المختلفة قادرة على لعب دور سياسي برعاية انقلاب عسكري صهيوني النواة في مصر، أو بتقديم غطاء سياسي للتدخل العسكري الروسي في سوريا ولكن دورها الآن يقتصر على دور المتعهد السياسي ولا شيء أكثر من هذا. 
يُضاف إلى ذلك أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض مع حجم المعارضة الشعبية له، ومطالبة ولاية كاليفورنيا بالانفصال، يشي بالمزيد من الأفول في الدور الأمريكي، إلا أنها لا تزال مركز قوة سياسي. ويمكننا الآن القول بأنه لا حرب بدون روسيا ولا تسويات بدون أمريكا، والقطبان اللذان يبدوان متنافرين تجمعهما من المشتركات أكثر ما تفرقهما من المتناقضات. 
هذه الأرضية المشتركة كانت قائمة منذ زمن، ولا يفطن إليها من تربى عقله على الصراعات القطبية ذات اللونين. الكتابات الأمريكية الأكثر عمقاً والتي تحدثت عن بدء الاستقطاب الأمريكي السوفياتي ربما تكشف جانباً غير مرئي من تلك العلاقة. فمما لا شك فيه أن هناك درجة من الصراع، غير أن هذا الصراع يبقى منحصراً في الجزئيات، وحين يصل الأمر إلى ثوابت النظام العالمي تجد القطبين متفقين دون حاجة لمفاوضات. 
ففي أوج الصراع الأمريكي السوفياتي في عهد آيزنهاور، اتفق كل من السوفيات والأمريكيين على مؤازرة عبد الناصر في مصر، ضد كل من بريطانيا وفرنسا، (ولا أقول ضد الكيان الصهيوني لأن الأمر أعمق من الصورة الظاهرة التي بدت للناس أثناء العدوان الثلاثي)، وانتهى قرار التأميم (الأمريكي في حقيقته) إلى مشهد لطيف يجلس فيه المرشدون الملاحيون السوفيات والأمريكيون في مكاتب قناة السويس ليديروا حركة الملاحة في القناة كتفاً بكتف. 
غير أن هذا الصراع ليس أصيلاً في بدايته, فهو صراع مستحدث، عملت الأجهزة الأمريكية في إدارة ترومان ومن بعده آيزنهاور على تغذيته، والأمر يشبه إلى حد بعيد تصوير مشاهد أفلام يبكي فيها الممثلون تأثراً ويظهرون كل أطياف المشاعر البشرية من حب وبغض، ولكنهم في النهاية يجتمعون خلف الكواليس ليتناولوا طعام الغداء. 
ففي كتاب (لعبة أمريكا الكبرى)، أوضح المؤرخ ويلفورد كيف كانت المخابرات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية تفضل التعامل مع الضباط الاشتراكيين في المنطقة العربية على التعامل مع الرجعيين الموالين لإنجلترا. وهي مسألة تبدو للبعض غير مفهومة، إذ كيف تتعامل المخابرات الأمريكية التي تكافح الشيوعية مع ضباط اشتراكيين!! 
وفي مذكرات مايلز كوبلاند (وهي غير كتابه الشهير لعبة الأمم) إشارات قصيرة إلى الدور الذي لعبته المخابرات الأمريكية مع عبد الناصر من دعمه عبر قناة اتصال ليظل معتقداً أن هناك رأياً يدعمه في الإدارة الأمريكية، مع تدبير كيفية إزعاجه إقليمياً مع عملائهم الآخرين في باقي الدول العربية. 
الأمر إذاً أشبه باللعبة الحقيقية، التي يجري فيها تعيين ممثلين ليؤدوا أدواراً على خشبة المسرح. 
صراع بين الروس والأمريكيّين؟! 
نعم هناك صراع على درجة من الدرجات بين الجانبين، ولكن الصراع ينتهي تماماً حين يصل الأمر إلى ثوابت النظام العالمي، وستظهر المشتركات أكثر فأكثر بعد أن وصل ترامب الذي يحظى برضا روسي لا شك فيه، إلى البيت الأبيض. 
والتدخل الروسي في المنطقة لا يهدف فقط إلى وقف طوفان الثورة السورية التي كادت تكتسح نظام بشار، ولا يهدف فقط إلى معالجة الفشل المستمر الذي مُنيت به ميليشيات حفتر انطلاقاً من مصر، بل يهدف بين ما يهدف إلى رعاية مصالح شركات البترول الكبرى، وهي المصالح التي لعبت دوراً كبيراً في حروب المنطقة منذ حرب 1956 المفتعلة، وحتى حرب العراق مروراً بحرب أكتوبر, وقد شرح ويليام انجدال في كتابه (قرن من الحرب) جانباً من هذه المصالح. 
العامل الأكثر خفاء في كل هذا الخلط السياسي الذي يصعب هضمه على البعض، هو حماية الكيان الصهيوني وتفتيت الدول المحيطة به، ولا يغيب عن الكثيرين دور الكيان الصهيوني في التدخل العسكري الروسي في سوريا من البداية.