العدد 1688 /5-11-2025

زياد بركات

لم تُعرف عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عناية من أي نوع بالثقافة، على خلاف كثير من أسلافه الرؤساء. يُروى أن جورج بوش الابن سُئل عن كتاب قرأه وأعجبه فأجاب بأنه "الغريب" لألبير كامو (1913 - 1960)، أما ترامب فلا يُسأل أصلاً عن أمر لم يجد سائله حرجاً في توجيهه إلى بوش، الذي يمكن أن يوصف بأي شيء إلا بأنه مثقف أو يُعنى بالثقافة.

يروي الكولومبي الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 1982، غابرييل غارسيا ماركيز، في أحد مقالاته، عن ليلة لا تنسى مع بيل كلينتون (عام 1995) على مأدبة عشاء شارك فيها المكسيكي كارلوس فوينتس وآخرون، وعندما وصل النقاش إلى الكتب المفضلة لدى الحضور ذكر فوينتس أنه معجب بإحدى روايات وليام فوكنر، ففوجئ الحضور إذ ذاك بالرئيس الشاب يقف ويبدأ بقراءة مقاطع كاملة غيباً من رواية "الصخب والعنف" لفوكنر.

ومعلوم أن الأخير من أساتذة السرد في العالم، وسبق لماركيز أن تحدث مراراً عن إعجابه وتأثره بأسلوبه الخاص بالسرد القائم على انثيالات الذاكرة والسرد المتقطع، أو ما عُرف بتيار الوعي الذي يمثّل فوكنر أحد سادته، إذا جاز الوصف، إضافةً إلى جيمس جويس وفرجينيا وولف.

ونعرف من مقال ماركيز أن كلينتون قرأ رواياته، وعلى الأخص أشهرها "مائة عام من العزلة" التي أشادت بها لجنة نوبل لدى منحه جائزتها، كما نعرف من شذرات كتبت عن الرئيس "الشاب" آنذاك أنه من قراء فوكنر تحديداً، وأنه قرأ "مائة عام من العزلة" عندما كان طالباً في الجامعة، وأنه يعتبر ماركيز أهم روائي في العالم بعد فوكنر، وهذا يُحمد للرئيس السابق الذي يعرف العالم كله تفاصيل علاقته بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، ولا يعرفون أنه من قراء فوكنر وماركيز.

ماذا عن ترامب، وهو رجل أعمال عمل في العقارات والترفيه لا دور النشر أو حتى الإنتاج السينمائي؟ باستثناء ظهوره الخاطف في فيلم أو اثنين صُوّرت مشاهد منهما في برجه الشهير، فإن علاقة الرئيس الحالي بالثقافة تقوم على الإقصاء، بل الانتقام؛ فلم يعرف عنه اهتمام أو رعاية لأي منشط ثقافي في البلاد إلا إذا اعتُبر عزله أمينة مكتبة الكونغرس، في مايو/أيار الماضي، استراتيجية مضادة لثقافة التنوع التي رسّخها الأميركيون عبر تاريخهم، وهي استراتيجية تقوم على تفكيك الثقافة لا رعايتها، وتفريغها من محتواها وتوجيهها لتصبح أحادية واستئصالية، ونوعاً من خطابات التطرف والعنصرية وفي خدمة السياسة والرئيس تحديداً.

وكانت أمين المكتبة المعزولة، كارلا هايدن، أول امرأة وأول أميركية من أصل أفريقي تتولى ذلك المنصب منذ تأسيسه والمكتبة عام 1800.

الأمر نفسه فعله أيضاً حين وجد "شخصاً رائعاً ومذهلاً" ليترأس مجلس أمناء مركز كنيدي للفنون، بعد أن قطع عنه التمويل وعزل مجلس إدارته، وهو يقصد نفسه، معلناً أنه سيقود "العصر الذهبي للثقافة الأميركية".

وفي سياق هذا العصر تُلغى تأشيرة الكاتب النيجيري وول سوينكا، الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 1986. وبحسب سوينكا الذي أعلن أن القنصلية الأميركية في لاغوس ألغت تأشيرة دخوله إلى الولايات المتحدة، فإن السبب قد يكون انتقاده لترامب. ومعلوم أن الأخير لا ينسى ويطلب من مساعديه تسجيل أسماء الدول والأشخاص الذين عارضوه في هذا الشأن أو ذاك، ما يشير إلى عصر ذهبي غير مسبوق قد تدخله بلاده في ولايته الثانية.

ما حدث مع سوينكا يؤكد وجهة نظره في ترامب، فهو "دكتاتور أبيض الوجه"، عيدي أمين آخر (دكتاتور أوغندا في السبعينيات)، وعندما تتصرف إدارة ترامب على هذا النحو مع المسرحي النيجيري فذلك يؤكد أنه "دكتاتور" و"عليه أن يفخر بذلك" بحسب تعليق ساخر لسوينكا.

ولا يعرف بم ستوصف ولاية ترامب الثانية، وهو يرغب في صفة صانع السلام في العالم كله، لكن معاداته للثقافة والتنوّع ومساعية إلى ترسيخ ثقافة تقوم على الذكورية الفجة، وإعلاء العرق الأبيض واستئصال أي مكوّن ثقافي كبير آخر في تاريخ البلاد، معطوفاً على بدائيته وضربه عرض الحائط حتى ببروتوكولات الاستقبال الرسمية، من شأنه تحويل بلاده إلى جمهورية موز أخرى بعد أن تحولت هذه الجمهوريات إلى فصول في روايات لاتينية، تدرّس في الجامعات ويقرؤها ويُعجب بها رؤساء من مثل كلينتون وسواه.