العدد 1681 /17-9-2025

مالك ونوس

 

فرض العدوان الإسرائيلي على الدوحة، قبل أيامٍ، مجموعةً كبيرة من التحدّيات على دول المنطقة العربية برمتها، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي التي استُهدفت إحدى دوله، وكان بعضها يعتقد أنه يعيش استقراراً لا يمكن للإسرائيليين أن يكدّروه يوماً. ولأن العدوان على الدوحة سابقةٌ تاريخيةٌ، فإنه يطرح تساؤلاتٍ عميقة لم تطرحها دول الخليج من قبل، وتتعلق بتهديد إسرائيلي جديٍّ لم يخطر يوماً في بالها، ولا في بال الدول العربية البعيدة جغرافياً عن فلسطين المحتلة، والنائية بعضها بنفسها سياسياً عن الصراع بين دولة الاحتلال ودول في الجوار، وعن حربها على الشعب الفلسطيني. لذلك، وفي ظل تلك التحدّيات والتساؤلات التي فرضها هذا العدوان، تعد الدعوة إلى عقد قمةٍ عربية إسلامية طارئة في الدوحة في محلها، بسبب تراكم عوامل جعلتها أكثر من ضرورية، وبسبب احتمال أن تصدُر عنها قراراتٌ بحجم السابقة التاريخية المتمثلة في هذا العدوان.

ليس متوقّعاً أن تنتهي قمّة الدوحة الطارئة إلى نظامٍ عربي جديد، مغاير في شكله وسياساته للنظام العربي الرسمي الذي عهدنا سياساته المتهاونة منذ سنة 1948، لحظةَ تأسيس الكيان الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، وحتى اللحظة التي قرّرت فيها قيادة دولة الاحتلال استباحة سيادة الدول العربية، فأرسلت طائراتها الحربية لتخترق المجال الجوي لعدّة دول عربية، بغرض ضرب دولة عربية أخرى، قطر، في عاصمتها التي باتت مركزاً لدبلوماسية جديدة لحل النزاعات الدولية، وسجّلت نجاحات ملموسة في تلك المهمّة وفي ملفات كثيرة. ولكن، من المأمول أن تؤسّس هذه القمّة لنظام عربي جديد مدعوم من دول إسلامية، لمست هي الأخرى أنها ليست في مأمنٍ عن تهديد مماثل، بعدما فاجأها العدوان على الدوحة. نظام عربي، لا يكفيه أن يعود إلى مسلّماته السابقة التي كان أساسها السعي إلى تحقيق أهدافٍ منها مواجهة المخططات الإسرائيلية في المنطقة، ولم يعد أحد يتطرق إليها، على الرغم من ثقل نتائج تلك المخطّطات ووضوح الأهداف التي تطرحها، وينفَّذ كثيرٌ منها بشكل متوالٍ، بل نظام عربي يتخلّص من أوهام إمكانية التعايش مع دولة الاحتلال، والسعي إلى تطبيع العلاقات معها لضمان أفضل سبل ذلك التعايش معها عبر مداراة سفاهاتها.

بالإضافة إلى عدم اكتراث قيادة دولة الاحتلال بحقيقة أن استهدافها قيادة حركة حماس ووفدها المفاوض في محاولة لاغتيال أعضائه، يعطي انطباعاً أنها ليست جدّية في أي مفاوضات ولا في أي مسار سلمي. لم تكترث هذه القيادة بطبيعة المنطقة التي استهدفتها في قطر، والتي تعدّ منطقة مكتظة بالسكان وبالمدارس، ما يمكن أن يؤدّي إلى سقوط عشرات الضحايا المدنيين من رعايا دولة فتحت أبوابها للوفد الإسرائيلي، لإنجاح فرص مقترح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتعلق بوقف إطلاق النار في غزّة، وإطلاق الأسرى الإسرائيليين، بطبيعة الحال. لذلك، تؤكّد هذه الجزئية طبيعةَ الكيان الإسرائيلي وقادته القائمة على العدوانية والغدر، خصوصاً أن العدوان لا يمسّ قطر وحدها، بل يمسّ دولاً عربية في الخليج، أقامت علاقات طبيعية معه، وائتمنت جانبه الذي ثبت أنه لا يُؤتمن. وإنْ لم يجد العرب في إعلان بنيامين نتنياهو تبنّيَه "رؤية إسرائيل الكبرى" التي ستقضم دولاً عربية كاملة، وأجزاء كبيرة من دول عربية أخرى، والتي ترى أن الأفق لإسرائيل يكمن في هذه الدولة، وفي جعل دول الطوق أسيجةً حدوديةً حمائية، وليس في العلاقة الطبيعية مع الدول العربية، إن لم يجدوا في هذه الرؤية تهديداً وجودياً لهم، أعطاهم نتنياهو الحجّة الواضحة لكي يجدوا في العدوان على الدوحة ذلك التهديد الذي يمكن أن يطاولهم جميعاً، ويؤسّس للتهديد الوجودي الملموس. وبعد الضربات، جاء تأكيد أهدافها واستمراريّتها، من خلال التهديد الصريح الذي صدر عن رئيس الكنيسيت الإسرائيلي، أمير أوحانا، حين علَّق على الهجوم على حسابه على منصّة X إن "هذه رسالة إلى كل الشرق الأوسط". ثم جاءت تصريحات نتنياهو التي هدّد فيها كل الدول التي فيها فلسطينيون ستكون هدفاً لضربات كيانه. ما معناه أنه تأكيد التفوّق الإسرائيلي في المنطقة، وأنْ لا أحد في مأمن من الإسرائيليين، كانت لديه علاقات طبيعية مع هذا الكيان أم لا.

 

ربما يمكن القول إن النظام العربي ظهر عاجزاً وبدأ بالترنح مع غزو العراق الكويت، وزاد ترنّحه مع سقوط أهم المبادئ التي قام عليها، وهو التضامن العربي، مع سقوط بغداد سنة 2003، واحتلال الولايات المتحدة العراق وتقويض الدولة العراقية. ولكنه بقي قائماً، وإنْ في ظل انقسامات ازدادت حدتها مع تفجر ثورات الربيع العربي سنة 2010. غير أن هذا النظام سقط سقوطاً مدوّياً ونهائياً عند معبر رفح الفلسطيني المصري، يوم فشل، سنتين في فرض عبور شاحنات تحمل مساعدات أممية إلى داخل قطاع غزة لإطعام المجوَّعين فيه، ولنجدة سكّانه الذين تجري بحقهم حرب إبادة جماعية على الهواء مباشرة.

أما وقد أدركت الدول العربية التي يشكلها هذا النظام حقيقة موته سريرياً، بدأت مبكّراً بالبحث عن أدوار إقليمية؛ مرّة عبر النكوص إلى وطنيات محلية غير واضحة المعالم، وأحياناً وهمية، ومرّاتٍ عبر التعاون مع دول من خارج المنظومة العربية، منها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ما زاد من حدّة الانقسامات والاستقطابات الدولية التي تتنازعه. وحصل ذلك في وقت كان يمكن لهذا النظام من خلال المؤسّسات التي تمثله، مثل جامعة الدول العربية وغيرها، وكذلك المقوّمات الجامعة كاللغة والتاريخ والدين والتداخل الاجتماعي بين الدول المتجاورة، والإمكانات الاقتصادية والمالية والعسكرية والعلمية والبشرية التي تحوزها دوله مجتمعةً، أن يجعل من المجموعة العربية قطباً إقليمياً، يوازي بثقله الأقطاب الإقليمية، وربما الدولية، التي تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من فتراتٍ تاريخية لاحقة، ويفرض سياساته ويحقّق الأهداف التي قام من أجلها.

ولكن، ما هو النظام العربي البديل عن النظام العربي الرسمي الذي بات في حكم الميت، ويمكن أن تدفع التحدّيات الوجودية، وكان جديدها أخيراً استباحة الإسرائيليين سيادة دول عربية لضرب عاصمة دولة عربية أخرى، إلى تأسيسه على قاعدة القطع مع كل السياسات التي سبقت وأدّت إلى الانهيار وهذه الاستباحة؟ يمكن للقمة الطارئة أن تجد الصورة الأفضل لنظام كهذا. لكن، ولكي يكون مختلفاً، يفترض به مراجعة كل ما سبق من تاريخ النظام القديم، وأدّى إلى ما أدّى إليه من انحدار هذه الدول التي بات مستقبلها ووجودها بيد من توقفت عن تصنيفهم أعداءً لها في تل أبيب، بينما هم صنّفوا كل الدول العربية أعداءً، ولم يتوقّفوا مرّةً عن استهدافها.