العدد 1688 /5-11-2025

وائل قنديل

الغياب العربي اللافت عن حفل افتتاح المتحف المصري، أو يمكنك أن تقول الحضور الضعيف وضعف التمثيل، يبدو منطقياً للغاية في أجواء هستيرية من التخندق في هُويَّة فرعونية، بطريقة تميل إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه، إظهار خصومة غير مبرّرة مع الانتماء العربي، اقتربت هذه المرّة من حدود الجنون، وكأنّ وطناً قد ضجّ بعروبته وهاجر إلى كهوف التاريخ القديم.

معلوم أن هذه ليست المرّة الأولى التي تندلع فيها هذه الحالة من "التفرعن الهستيري"، فقد سبق أن وجدنا شيئاً من ذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات مع احتفالية نقل المومياوات الفرعونية، إذ استُهلكت كمّيات هائلة من الكلام عن الريادة الحضارية واشتعل الحديث عن الهُويَّة، لتعود مجدّداً تلك الاشتباكات العقيمة حول هُويَّة مصر وشخصيتها، ويستعر الاستقطاب بشأن انتمائها التاريخي والحضاري، لتجد نفسك بصدد اللعبة السخيفة القديمة: صناعة التناقض بين العروبة والإسلام والفرعونية.

بدا الأمر، هذه المرّة، وكأنّ هناك توجّهاً أو توجيهاً للاستقالة من العروبة، استخدمت فيه كل إمكانات الذكاء الاصطناعي، فغرقت منصّات التواصل الاجتماعي بملايين الصور لمواطنين عاديين قرّروا الظهور بأزياء الفراعنة، وكأنّنا بصدد تظاهرةٍ مصنوعةٍ لإعلان "انقلاب هُويَّاتي" مدروس، استثماراً في حدث ثقافي مؤجّل منذ نهايات عصر حسني مبارك، حين كان كل شيء قد اكتمل تقريباً في إنشاء المتحف تحت إشراف وزير الثقافة في ذلك الوقت، فاروق حسني.

اشتعل هذا الحريق الشوفيني بفعل فاعل بقصد إحداث حالة من الاندفاع غير الواعي نحو الاختباء في قوقعة فرعونية، مع إغلاق الأبواب وتقطيع الخطوط مع أيّ انتماء حضاري وثقافي عربي، وهي حالة لا تعبّر في أي حال عن الإنسان المصري، بفطرته وشخصيته الحقيقية البسيطة، الذي لا ينشغل بموضوع البحث عن هُويَّة بديلة للعربية، بقدر ما تشغله حقوقه في حياة محترمة يجد فيها الحرية والكرامة، ويجد ما ينتشله من بين أنياب ظلم اجتماعي يجعل معيشته ضنكاً.

لا يتنكّر هذا الإنسان البسيط لعروبته، كما لا يخفي اعتزازه بمصريته القديمة، من دون أن يجد تناقضاً بين الاثنتين، مسلماً كان أم مسيحياً، ولا تعنيه هذه المعارك العقيمة التي تنطلق من نعراتٍ عنصريةٍ سخيفة، وتتغذّى على افتعال التناقض الحضاري والثقافي بين المصرية والعروبة والإسلام.

في دحض هذا التناقض المفتعل، ثمّة عشرات الدراسات التاريخيّة والميثولوجية التي أثبتت الوشائج القوية بين العربية والفرعونية، لعلّ أبرزها ما قدّمه الأكاديمي الليبي علي فهمي خشيم في مجموعة دراسات، أشهرها ما اشتمل عليه كتابه "بحثاً عن فرعون العربي"، الذي يؤكّد فيه أن الحديث عن اللغة المصرية باعتبارها أختاً شقيقة للعربية أصبح من نافلة القول، تماماً كما هو الحال بالنسبة للبابلية والكنعانية والليبية وغيرها، بعد أن كان الباحثون فترة طويلة يقسّمون لغات الوطن العربي بين قسمين: سامية تشمل لغات الجزيرة العربية، وحامية هي اللغات في مصر وشمال أفريقيا، وكُتبت آلاف الدراسات والبحوث على هذا الأساس. وكان الباعث على هذا الاتجاه خطأ تاريخي يكمن في الاعتماد على تقسيم التوراة للأمم والشعوب من جهة، ومخطّط سياسي ينبع من الرغبة الملحّة في تقسيم شعوب الوطن العربي من طريق تجزئة تراثه الثقافي والحضاري القديم، وقوامه الأول اللغة. ولكن كثيرين الآن يرجعون إلى التسليم بوجود "قاسم مشترك" لا ينكر بين لغات هذا الوطن القديمة، أسماها بعضهم "اللغة الأم"، أو السامية الحامية تحرّجاً من تسميتها "اللغة العربية الأولى" باعتبار العروبة في عصرنا الحاضر ذات مدلول سياسي وقومي قائم بذاته.

يثير الانتباه في هذه اللوثة المصاحبة لمهرجان التفرعن والفرعنة أنهم يتحدّثون عن المصريين بوصفهم الملوك أحفاد الملوك قديماً وحديثاً، لكن المدهش حقاً، بحسب دراسة خشيم، أن اللغة الهيروغليفية لا تتضمّن كلمة "الملك" أو كلمة "الدين"، وهذا موضوعٌ يستحقّ التوقّف عنده بشكل مفصل، لكن ما يثير الأسى حقّاً أن هذا "النزق الهُويَّاتي" صار ضمن أدوات المكايدة السياسية في توقيتاتٍ بعينها تشهد إلحاحاً على الإطلالة الفرعونية، ثمّ ينقلب الموقف فجأة فتنطلق أغنيات وأناشيد العروبة، من دون أي منطق إلا المنطق التجاري الاستثماري.

بقي أن هذه اللوثة لم تتعمّد إظهار الازدراء للعروبة وحدها، بل كان ثمّة إصرار على استثمار المناسبة في ازدراء ثورة يناير (2011) باستحضار كل الوجوه التي كانت سبباً في اندلاع هذه الثورة، لتتقدّم الصفوف، وتبدو في هيئة فراعنة هذا العصر العجيب.