العدد 1686 /22-10-2025

سالي موسى

أكتوبر 2025، استيقظت باريس على خبر استقالة الحكومة الفرنسية الجديدة برئاسة سيباستيان لوكورنو، بعد أربع وعشرين ساعة فقط من تشكيلها. لم يكن الخبر مجرد حادث سياسي عابر، بل الشرارة التي أطلقت صفارات الإنذار في قلب الأسواق المالية. وبينما كانت الشاشات تعرض صور الوزراء المغادرين، كان مؤشر CAC 40 يهبط بأكثر من 1.3%، وأسهم البنوك الكبرى تتهاوى بين 4% و5%. في يوم واحد فقط، تحوّلت أزمة الحكم إلى أزمة ثقة مالية تمسّ أحد أعمدة الاقتصاد الأوروبي.

قفز الفارق بين السندات الفرنسية (OAT) والألمانية (Bund) إلى نحو 89 نقطة أساس في اليوم التالي للاستقالة، وهو الأعلى منذ أزمة الديون الأوروبية عام 2012. في لغة الأسواق، هذا الفارق هو مقياس الثقة. وكل عشر نقاط إضافية تكلف الخزينة نحو ثلاثة مليارات يورو سنوياً. ومع كل نقطة ترتفع، تتقلّص قدرة الدولة على تمويل مدارسها ومستشفياتها، وتتسع الهوَّة بين الاقتصاد والمجتمع. لم تكن هذه القفزة مجرد تقلّبٍ مالي، بل ترجمة فورية لحقيقة أعمق: أن السياسة الفرنسية دخلت في حالة تعطّل مؤسسي. فغياب حكومة قادرة على تمرير الموازنة جعل من السندات الفرنسية ورقة محفوفة بالمخاطر في نظر المستثمرين. قالت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، بعبارات دبلوماسية دقيقة: "نتابع التطورات عن كثب، فاستقرار فرنسا استقرار لأوروبا". لكن الأسواق قرأت ما وراء الدبلوماسية: باريس لم تعد تُقنع نفسها قبل أن تُقنع الآخرين.

بنوك على حافة الانكماش

لم تنتظر البنوك الفرنسية طويلاً لتشعر بارتدادات العاصفة. فقد خسرت بنوك بي إن بي باريبا وسوسيتيه جنرال بالإضافة إلى كريدي أغريكول مجتمعةً أكثر من عشرين مليار يورو من قيمتها السوقية خلال أسبوع واحد. كان ذلك امتداداً لمسار طويل من الانكماش البنيوي، لكن هذه المرة جاء الانكماش محمّلاً بالرمز أكثر من الأرقام. غير أن الأزمة المصرفية لا تتجلى فقط في تراجع الأسهم، بل في تفاصيل الحياة اليومية. فمنذ عام 2015 تراجع عدد أجهزة الصرّاف الآلي في فرنسا من 58.263 إلى 42.578 جهازاً بنهاية 2024، أي انخفاض بنحو 27% خلال أقل من عقد. وفي عام 2023 وحده، أُغلق أكثر من 1500 صرّاف، معظمها في المدن المتوسطة والريف. أمام هذا التراجع، لجأت البنوك الكبرى؛ بي إن بي وسوسيتيه جنرال، إلى مشروع موحّد تحت اسم كاش سرفيس، لتشارك البنية التحتية وتُقلّص التكلفة التشغيلية التي تبلغ نحو 25 ألف يورو سنوياً لكل جهاز.

 

من الناحية التقنية، يوفّر المشروع مئات ملايين اليوروهات سنوياً، لكن رمزياً، يعكس اقتصاد الانكماش الفرنسي نفسه: كما تُقلّص الدولة إنفاقها الاجتماعي لإرضاء الأسواق، وتُقلّص البنوك حضورها الميداني لإرضاء المساهمين. وفي الحالتين، المواطن هو من يدفع ثمن غياب الثقة. الخطر هو أن يتحوّل هذا الانكماش المزدوج إلى حلقة سلبية: فالبنوك تحمل في دفاترها مليارات من السندات السيادية، وكل ارتفاع في العوائد يعني خسائر مباشرة في تقييماتها. ومع تراجع رسملتها، تقلّ قدرتها على إقراض الاقتصاد، فينعكس ذلك على الاستثمار والوظائف. وهكذا يصبح الفارق المالي مرآةً لأزمة الثقة الشاملة، لا مجرّد رقم في شاشات البورصة.

اقتصاد التقشّف… وسياسة الغياب

منذ مطلع العام، تبنّت الحكومة الفرنسية سياسات مالية قاسية: خفض إعانات السكن، وتقليص المساعدات الاجتماعية، وزيادة الضرائب العقارية. وبدل أن تُترجم هذه الإجراءات إلى توازن في الموازنة، انعكست على المجتمع في شكل ضيق معيشي واضح. فقد استقرت البطالة عند 7.4%، وبلغ التضخم 2.5%، لكن أسعار الغذاء والطاقة ما زالت أعلى بنحو 15% - 20% عما كانت عليه قبل الجائحة. وفق آخر استطلاعات الرأي، يرى 61% من الفرنسيين أن السياسات الحكومية "تخدم الأسواق أكثر مما تخدم الأسر".

وفي قلب هذا المشهد، تتجلّى الأزمة في المؤسسات التي كانت رمزاً للعدالة الاجتماعية: الجامعات والمستشفيات. تقول ماري-أنيك ماتيولي؛ أستاذة في جامعة باريس سيتي، إن "الجامعات الفرنسية لا تخاف من نقص الأفكار، بل من نقص التمويل. الدولة تُطالبنا بالمزيد من الإنتاج العلمي، لكنها تُقلّص ميزانياتنا عاماً بعد عام، حتى أصبحنا نعمل في ظل ما يشبه التقشّف الأكاديمي". وتشير إلى أن غياب حكومة مستقرة يعني غياب قرار واضح في تمويل البحث والتدريس، "فكل شيء مؤجل بانتظار مَن يوقّع". وفي القطاع الصحي، يعبّر كلود روزنتال، رئيس جمعية تُعنى باستقبال ضحايا العنف الملحقة بمستشفى بريف، عن الإحباط ذاته: "لم تُفرَض قيود جديدة رسمياً بعد، لكن كل شيء مجمّد. البرامج متوقفة لأن الدولة نفسها متوقفة". ويضيف بنبرة حادة: "حين يصبح العلاج حساباً، نكون قد فقدنا معنى الصحة العامة".

ومع غياب حكومة فاعلة، يستمر العمل بهذه الإجراءات تلقائياً، كما لو أن الاقتصاد الفرنسي أصبح آلة تعمل بذاكرة تقشّف ذاتية، لا تحتاج إلى برلمان ولا إلى رؤية سياسية. في الوزارات والجامعات والمستشفيات، يستمر التجميد المالي نفسه، ويُعاد إنتاج الأزمة بأشكال جديدة: المال موجود، لكن الثقة تبخّرت. في التجارب الأوروبية القريبة، كانت لبلجيكا عام 2021 تجربة مشابهة حين اتسع الفارق مع ألمانيا إلى 60 نقطة أساس، وواجهت البلاد احتجاجات اجتماعية وسط حكومة عاجزة. اليوم، تتقدّم فرنسا نحو هذا السيناريو بخطى أسرع، إذ يحذّر المحللون من أن بلوغ الفارق 100 نقطة أساس سيضع الاقتصاد الفرنسي في منطقة الخطر، حيث تصبح خدمة الدين العام عبئاً يفوق قدرة الدولة على التحمل.

أخيراً، إذا لم ينجح قصر الإليزيه في تسمية رئيس حكومة جديد خلال الأيام المقبلة، فإن فرنسا قد تدخل أخطر مراحلها منذ أزمة الديون الأوروبية: فراغ سياسي يعلّق القرار المالي، وأسواق تترقب كل تصريح، ومجتمع يتعب من الانتظار. فكل يوم بلا حكومة يعني ارتفاعاً جديداً في عوائد السندات، وتراجعاً إضافياً في ثقة المستثمرين، وقلقاً متزايداً في الشارع الفرنسي. في الظاهر، يبدو الأمر تقنياً - أزمة موازنة أو عجز في التسمية - لكن في العمق، المسألة أعمق من الأرقام: إنها أزمة في معنى الدولة نفسها. حين لا تجد الجامعات مَن يوقّع ميزانيتها، والمستشفيات مَن يعتمد خططها، والمصارف مَن يطمئن أسواقها، تصبح فرنسا مثل صرّافها المغلق: النظام موجود، لكن الدورة متوقفة.

من قصر الإليزيه إلى أجهزة الصرّاف، ومن مكاتب الأساتذة إلى غرف المستشفيات، تتكرّر الصورة نفسها: مؤسّسات تنتظر القرار، ومواطنون ينتظرون الثقة. فالدولة التي بنت مجدها على العدالة الاجتماعية تجد نفسها اليوم محاصَرة بين أرقام التقشّف وخوف المستثمرين، بين صوت الأسواق وصمت الشارع. إن لم تُسمِّ فرنسا رئيساً للحكومة قريباً، فلن يكون الخطر في اهتزاز الأسواق فقط، بل في اهتزاز العقد الذي يربط الفرنسيين بدولتهم. لأن الثقة، في النهاية، ليست بنداً في الموازنة ولا سعر فائدة في البورصة، بل روح الأمة التي إذا فقدتها، فقدت كل شيء.