العدد 1683 /1-10-2025

عمار ديوب

لم تخطئ الآراء التي تؤكّد أن العرب أمة واحدة، وهو موقف أغلبية السوريين (75%) وفق المؤشر العربي لمركز الأبحاث ودراسات السياسات (الذي نُفذ بين يوليو/تموز وأغسطس/آب 2025)، مع الإشارة إلى تمييز هذه الأغلبية بين شعب هذه الدولة عن تلك. التأكيد هذا لا يلغي التمسك بالهوية الوطنية لهذا الشعب أو ذاك، وليس من الصحيح ضرورة التركيز على الوطنية السورية أو العراقية وسواها، وإلّا فإنّ شعب هذه الدولة أو تلك لا يشعرون بهويتهم الوطنية كفايةً، فهم قوميون أكثر مما هم وطنيون؛ هذا الكلام فيه الكثير من الشطط والنقد للفكر القومي، ويتناقض مع الموضوعية التي تربط بين الشعور بالانتماء إلى الأمة والدفاع عن الهوية الوطنية لهذا الشعب أو ذاك.

هذا المؤشر الهام يحدث لأوّل مرّة في سورية، ويَقرأ جيدًا روح الشعب "وعيه العميق"، وليس مقترنًا باللحظة الراهنة؛ فقضية فلسطين عمرها قرن كامل، والجولان محتل منذ 1967، نجد أنّ الأغلبية السورية تقول إنّ القضية الفلسطينية (69%) هي قضية كلّ العرب، وفقط 15% قالوا إنّها قضية خاصّة بالفلسطينيين. النسبة المرتفعة تستند إلى أن العرب أمة واحدة، وكلّ مشاريع التقسيم العربي، وزراعة الدولة الصهيونية، قبل وبداية القرن العشرين، ورداءة موقف النظام العربي تجاه القضية الفلسطينية لم تغيّر البوصلة العربية تجاه أصلهم؛ أمة واحدة ببلدان متعددة، وفلسطين قضيتهم المركزية.

بدا أنّ السوريين أيضًا يرفضون الاعتراف بالدولة الصهيونية، رغم تتفيه نظامي الأسد، الأب والابن، للموضوع القومي ولقضية فلسطين، ورغم ركاكة النظام الجديد بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول تجاه الجولان، وعدم التمسك باسترجاعه تمسكًا جديًا، كما أنّ 70% منهم يرفضون عقد أيّ اتّفاق مع هذه الدولة من دون عودة الجولان. كذلك، رأت أغلبية المستجوبين (88%) أن الدولة الصهيونية تهدّد الأمن والاستقرار في سورية، كما اعتبرها 55% أنها الأكثر تهديدًا لأمن سورية واستقرارها، تليها إيران بنسبة 14%، وترى نسبة 58% أنّ الدولة الصهيونية هي الأكثر تهديدًا لأمن الوطن العربي بأكمله.

من الأسباب التي تجعل الدولة الصهيونية تهديدًا خطيرًا لسورية، أنّها لا تبادر إلى ممارسات التقارب أو لإقامة علاقات طبيعية معها، وترى نسبة 74% أّنها تدعم بعض فئات المجتمع السوري من أجل تغذية النزعات الانفصالية، وتهدد وحدة التراب السوري. مع ذلك، هناك أكبر نسبة في الدول العربية، في سورية، ترى ضرورة الاعتراف بالدولة الصهيونية (17%). هذا مقلق، لكنه دلالة على انسداد الآفاق والتعب مما حدث في سورية منذ 2011، وشعور بـ"القرف" من أيديولوجية النظام السابق، وقمعه للشعب بحجة فلسطين أو الجولان، وبالتالي، فإنّ موقف الـ17% هو رد فعل أكثر مما هو رؤية عقلانية؛ فالأكثرية تتمسك باستعادة الجولان وبحقّ الفلسطينيين بتشكيل دولتهم.

يستند المؤشر أعلاه إلى تقييدات علمية دقيقة تجعل أرقامه فيها الكثير من الدقة حول اتجاهات الرأي العام، وبالتالي، هناك اتجاه عربي واسع يؤكّد ما ذهبنا إليه، من اعتبار القضية الفلسطينية قضية كلّ العرب، وبالنسبة للسوريين هناك رفض لإقامة أيّ علاقة مع هذا الكيان قبل إعادة الجولان والموافقة على تشكيل الفلسطينيين دولتهم، أو تفكيك الدولة الصهيونية وتشكيل دولة واحدة تكون وطنًا لكلّ من يقيم في فلسطين.

لا بدّ كي يكون التحليل موضوعيًا أن يشار إلى التناقض بين الأرقام وممارسات الشعب الذي يدلي برأيه، كما أوضح النص أعلاه، وأن ذلك يثير الاستغراب، وبالتالي، لماذا لا نشهد مظاهراتٍ عارمةً، أيّ أنماط فاعلة من الاحتجاجات؟ إذ نرى هدوءًا كارثيًا على طول العالم العربي تجاه ما يجري في غزّة وسورية خاصّةً، كما في التقدم الصهيوني مئات الكيلومترات داخل الأرضي السورية، وفرض منطقة أمنية في الجنوب السوري كّله.

التلاعب الصهيوني بسلطات الأمر الواقع السورية

لماذا هذا التناقض، وبالتأكيد، ليست أرقام المؤشر كاذبةً، ونسبة الخطأ فيها لا تتجاوز الـ3%؟ إذًا ما هو التفسير المنطقي لهذه الظاهرة، إن القمع الشديد للشعوب العربية، وغياب الحريات، وعدم الفصل بين السلطات، وعدم الركون إلى القضاء، وسيادة الأنظمة الشمولية، وهشاشة الوضع الاقتصادي للأغلبية العربية، هي عوامل شديدة التأثير على غياب الفعالية المجتمعية، والاكتفاء بإبداء الرأي. ولتفسير التناقض نشير إلى الانفجارات المجتمعية (الثورات 2011)، فالمجتمع بلحظة معينة ينفجر بهذه المدينة أو تلك، أو في البلاد كلّها، وذلك بسبب إغلاق المجال العام للسياسة وأن تتطور الاحتجاجات بالتدريج. هناك ملاحظة أخرى، وهي أن المستجوبين يبدون آراءهم من دون خوفٍ طالما لن تسجل أسماؤهم، وبالتالي، النسب دقيقة تجاه القضايا القومية والوطنية، وبغض النظر عن الأفعال والاحتجاجات الرافضة لمأساة فلسطين، أو ضعف الموقف الشعبي تجاه التقدم الصهيوني في سورية.

تدفعنا مأساة فلسطين ومآسي سورية، التي لا تُختصر باحتلال الجولان فقط، إلى الإشارة إلى أنّ المدخل التأسيسي لحلّ المشكلات العربية يتعلق بإعادة الدور السياسي للشعب والتشاركية، والعمل السياسي والنقابي المستقل، ولا بدّ من فصل السلطات والتحوّل في نمط الحكم نحو الديمقراطية. إن أشكال التراجع تجاه الدولة الصهيونية كلّها، وفي كلّ الدول العربية، تتعلق بغالبيتها، بسبب أنماط الحكم غير الديمقراطية، أيّ التّي تَستبعد دور الشعب في تقرير مصير البلاد، وتجاه الأحداث الكبرى.

إنّ التأسيس لاستعادة فلسطين، أو وضع حدّ لتغول الدولة الصهيونية في سورية وسواها، وقد باتت تفرض "هيمنتها" على المنطقة العربية بأكملها، وتحاول أن تفرض نفوذها حتّى على تركيا وإيران؛ إن هذا التأسيس أصبح يتطلب الديمقراطية، وتدخل الشعب حينها بدورٍ سياسيٍ ووطنيٍ رافض لكل أشكال الهيمنة تلك. هذه اللحظة وحدها تشبه اللحظة العربية ما قبل تأسيس الدول المستبدة، أقصد في الخمسينيات، حيث كان العرب يرفضون أشكال التدخل الغربي والصهيوني كلّها بغض النظر عن نتائج مقاومتهم الميدانية حينها.

من الأسباب التي تجعل الدولة الصهيونية تهديدًا خطيرًا لسورية، أنّها لا تبادر إلى ممارسات التقارب أو لإقامة علاقات طبيعية معها، وترى نسبة 74% أّنها تدعم بعض فئات المجتمع السوري من أجل تغذية النزعات الانفصالية.