فايز سارة
خلاصة التسوية بين مقاتلي داريا ونظام الأسد، تقضي بتسليم المدينة للنظام مقابل خروج نحو خمسة آلاف، هم من تبقى من سكان المدينة والمدافعين عنها إلى مناطق خارج سيطرة النظام. وبهذه الخلاصة، يسدل الستار على فصل مهم من قصة مدينة صغيرة قاومت قوة النظام العاتية نحو خمس سنوات، في ظل حصار خانق، فشل العالم في فكه أو تخفيف معاناة المحاصرين على نحو ما فشل في الوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، كانت داريا ستجد فيه إمكانية لتجاوز التسوية الأخيرة في تسليم المدينة ورحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها.
داريا أكبر مدن غوطة دمشق الغربية، وهي الأقرب للعاصمة دمشق؛ إذ لا تبعد عنها سوى ثمانية كيلومترات، وتجاور مطار المزة العسكري الموصوف بأنه أكبر وأخطر قواعد النظام الأمنية والقتالية في محيط دمشق، حيث توجد فيه طائرات الهليكوبتر، ومقر فرع التحقيق للمخابرات الجوية السيّئ الصيت، وبلغ عدد سكان داريا أكثر من مائتين وخمسين ألفاً عشيّة ثورة السوريين على النظام في آذار من عام 2011، لكن غالبية هؤلاء تمّ تهجيرهم من المدينة في ظل سياسة القتل والاعتقال والحصار والتجويع، التي مارسها نظام الأسد، وأدت إلى مقتل وإعطاب عشرات الآلاف من السكان، وفقد آلاف منهم، قامت الأجهزة الأمنية والعسكرية باعتقالهم أو اختطافهم.
ويمثل موقع المدينة الاستراتيجي أحد أسباب السياسة الدموية، التي اتبعها النظام في التعامل مع المدينة وسكانها، وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه، منها أن داريا كانت بين أوائل المدن السورية التي انخرطت في الثورة، فأطلقت حراكاً مدنياً سلمياً ميّز الثائرين من أبنائها في سلوكياتهم وشعاراتهم رغم البطش المبكر الذي مارسه النظام ضدهم مع بدء المظاهرات أواخر عام 2011، وكرس أبناء داريا فكرة سلميّة الثورة بصورة منظمة ومنضبطة، وعملوا على صيانة المدينة والحفاظ على وحدة المسلمين والمسيحيين من أبنائها، وحافظوا على الوافدين من سكانها، وانفردوا بين الثائرين بتوزيع الورود والمياه على جنود النظام، وحافظوا على خطاب الثورة وشعاراتها دون الذهاب إلى التطرف.
غير أن النظام ردّ على اعتدال داريا وسلميّتها بعنف شديد، كانت مجزرة داريا في 2012 إحدى أبرز ذرواته المبكرة، التي قُتِل فيها ثلاثمائة من سكان المدينة في يوم واحد، يضافون إلى ثلاثمائة وستين آخرين قُتلوا في العام الأول من الثورة، مع اختفاء واعتقال نحو ألف من أبنائها ذلك العام، وكانت المجزرة بين الأسباب التي عززت توجُّه بعض ثوار داريا إلى التسلح للدفاع عن النفس، خصوصاً بعد تزايد عدد أبناء المدينة الذين انشقوا عن جيش النظام وأجهزته الأمنية، وانضموا إلى الثورة، فتم تشكيل المجموعات الأولى من «الجيش الحر» في المدينة، وتوحدت تلك المجموعات في كتائب أبرزها كتيبة شهداء داريا، قبل أن تنتظم تلك الكتائب تحت اسم «لواء شهداء الإسلام» في أعقاب المذبحة الكبرى التي ارتكبها النظام في شهر آب عام 2012.
فرض النظام الحصار على داريا مع أواخر عام 2012، فمنع مرور الأشخاص والسلع بما فيها الغذاء والدواء إلى المدينة بهدف إخضاعها، لكن الأهالي والفعاليات الأهلية والمدنية، أعادت ترتيب الحياة في المدينة من خلال مجلس محلي مُنتَخَب بطريقة ديمقراطية، هدفه تجاوز نقاط الضعف والفوضى والتشتت، وتجميع الجهود لإدارة المدينة وحياة سكانها عبر مكاتب متخصصة، يديرها مكتب تنفيذي، كان الوحيد بين المجالس المحلية الذي يشرف على المكتب العسكري ويوجهه، وفي هذا عكس أبناء داريا وعيهم وقدرتهم على تنظيم وإدارة حياتهم، بما في ذلك الدفاع عن مدينتهم ضد هجمات النظام التي ظلت متواصلة ومتصاعدة طوال السنوات التالية.
قصة داريا، قصة المدينة المثال في ثورة سوريا من حيث تجسيدها لسعي السوريين السلمي من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وحتى عندما ذهبت الثورة إلى التسلح والعسكرة، ظلت المدينة تحكم قبضتها عبر مجلسها المحلي على القوة العسكرية، وتخضعها لقرارات المجلس المحلي، الأمر الذي ساعد في صمود المدينة وأهلها في وجه القوة الطاغية للنظام.
ولئن استطاع الأخير أخذ المدينة بالقوة الطاغية، وترحيل من بقي من سكانها والمدافعين عنها، وسط ظروف سياسية وميدانية، فإنه لن يستطيع إلغاء فصل عظيم من تاريخ مدينة ظلت سنوات وسط حصار تقاوم العدوان والدموية في تجربة لا تكاد تماثلها تجربة في تاريخ المدن، بل إن حصار مدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية لمدة ستة أشهر، ليس إلا فصلاً بسيط من تجربة داريا.