العدد 1683 /1-10-2025

نايف زيداني

ربع قرن بالتمام والكمال على هبة القدس والأقصى، في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، والتي استشهد فيها 13 شاباً في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. تحلّ ذكرى الهبة الـ25 اليوم الأربعاء، في ظل حرب الإبادة والتهجير الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي الوقت ذاته استهداف الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وفي الداخل أيضاً، قمع للاحتجاجات ونشاطات التضامن مع غزة، وحملات اعتقالات واسعة، وتعميق هدم المنازل، وإشاعة الجريمة، وغير ذلك من الممارسات القمعية والعنصرية. ورغم مرور ربع قرن على هبة القدس والأقصى، لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، بل باتت أشد وأعمق.

وفي حين تفجّرت الاحتجاجات في أكتوبر 2000 إثر اقتحام رئيس المعارضة الإسرائيلية حينها أرييل شارون حرم الأقصى، فإن المسجد يشهد اليوم انتهاكات أوسع، وحرية أكبر لطقوس المتدينين اليهود واقتحامات المستوطنين، وتغييراً منهجياً لما يُعرف بـ"الوضع القائم"، الذي غيّره الاحتلال فعلياً (والوضع القائم في المسجد الأقصى هو الذي ساد قبل احتلال مدينة القدس الشرقية عام 1967، وبموجبه فإن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، هي المسؤولة عن إدارة شؤون المسجد). وأشار تقرير نشرته صحيفة يسرائيل هيوم الإسرائيلية قبل نحو أسبوع إلى أن مصطلح "انقلاب" صغير جداً أمام ما تفعله تل أبيب في المسجد الأقصى، إذ تغيّر "الوضع القائم" تدريجياً، بخطوات وقرارات سرية وعلنية. وأشار إلى أن ما هو مقبل أخطر بكثير على مستوى الحرم القدسي، بعد أن انتهكت إسرائيل الكثير من "المحظورات"، وبات الكثير مما كان "محرّماً" على اليهود بالأمس مسموحاً به اليوم، على طريق تحقيق السيطرة الإسرائيلية التامة على المسجد. أما الأعداد في ملفات شرطة الاحتلال، فتشير إلى أن 60 ألف مستوطن اقتحموا الأقصى في العام الحالي، وهو عدد ارتفع على نحو ملموس عاماً بعد عام، مقارنة بـ5792 مستوطناً خلال عام 2010.

تغييرات منذ هبة القدس والأقصى

تغييرات على مستويات عدة شهدتها الأعوام الـ25 الماضية منذ أكتوبر 2000، وازداد حجم التحديات أمام فلسطينيي الداخل المحتل، في ظل تراكم سياسات وقوانين إسرائيلية لا يمكن تفسيرها إلا بكونها استهدافاً صريحاً لوجودهم. وفي حين لا يمكن الفصل بين ما يحدث في غزة وما يحدث في الداخل، قررت لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطينيي الـ48 تنظيم نشاطاتها هذا العام تحت عنوان "مناهضة حرب الإبادة والتهجير والتجويع، التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على شعبنا منذ عامين، وتستفحل من يوم إلى آخر". وأضافت في بيان أن "التركيز الآن على محو مدينة غزة عن وجه الأرض، وتكثيف الجرائم، سعياً لتهجير أهالي قطاع غزة من القطاع برمته، وهذه الجرائم ترتكب أيضاً في أنحاء عدة في الضفة الغربية المحتلة، خاصة في مخيمات اللجوء".

"أعداء" واعتقال واسع للنساء

مع إحياء ذكرى هبة القدس والأقصى، في ظل استمرار الإبادة في غزة وإسقاطاته على الداخل الفلسطيني، يرى مدير مركز مساواة الحقوقي في حيفا، جعفر فرح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما اعتُبر عام 2000 انتهاكاً لحقوق الإنسان وقتل مدنيين أفراد، تحوّل إلى ظاهرة جماعية"، موضحاً أنه "نتحدث هنا عن مجازر، إذ لا يمكن فصل ما يحدث في غزة عما يحدث في الداخل"، وفي رأيه "إذا كان المطلب بعد أكتوبر 2000 بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في ما حدث في هبة القدس والأقصى، فاليوم من يطالب بلجنة كهذه يسخّف نفسه". ويعزو ذلك إلى أن "حجم الانتهاكات هي بحجم انتهاكات قوانين الحرب، لا بحجم انتهاكات حقوق الإنسان على مستوى دولة، ما يؤثر علينا في الداخل أيضاً". ويبيّن فرح أنه "نرى قمع التظاهرات في الداخل تحوّل لقمع منهجي منظم، وبناء على توصيات لجنة أور (لجنة التحقيق التي تشكّلت عقب أكتوبر 2000)، باستخدام قوة كبيرة من الشرطة للقمع والاعتقال مع أقل حالات قتل". وفعلياً، يقول فرح: "وثقّنا 13 حالة قتل خلال التظاهرات في أحداث أكتوبر 2000، وفي السنوات التالية حتى اليوم، كان لدينا حوالي 49 حالة قتل لمواطنين عرب برصاص الشرطة، ولكن في ظروف مختلفة وليس في تظاهرات".

هدم المنازل

مظهر آخر من مظاهر التنكيل والانتهاكات في الداخل المحتل بعد هبة القدس والأقصى، يبرز في اتخاذ عمليات هدم المنازل العربية منحى جديداً نوعاً ما، من حيث حجمها ووتيرتها. لطالما تفاخر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، خصوصاً في الآونة الأخيرة، بهدم منازل عربية، متوعّداً بالمزيد. وفي هذا السياق يقول فرح "إننا ننظر إلى ما يحدث في النقب على وجه الخصوص، ونشعر وكأن هناك نسخاً لتجارب التدمير الإسرائيلية التي تتم على نطاق واسع في غزة"، لافتاً إلى أن "ظاهرة هدم 50 بيتاً في اليوم نفسه، لم تكن من قبل بهذا الشكل"، إذ "نتحدث عن تدمير قرى بأكملها، مثل قرى السر والزرنوق وأم الحيران وغيرها، ومصادرة مئات آلاف الدونمات في النقب". ويوضح أنه "نرى تطبيقاً واسعاً لقوانين المواطنة والقومية (هدفها، بادعاء الاحتلال، الحفاظ على طابع الدولة اليهودي) في هذه الفترة".

العنف والجريمة

منذ هبة القدس والأقصى عام 2000 شهد المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل تصاعداً في العنف والجريمة، واتهامات للمؤسسة الإسرائيلية بمختلف أذرعها بالتواطؤ في ذلك، لإشاعة الفوضى وتدميره من الداخل. ومنذ مطلع العام الحالي وحده، قُتل في المجتمع العربي حتى اليوم نحو 200 شخص. وبالتوازي مع ذلك، عملت المؤسسة على مشاريع لدمج الشباب العرب في الخدمة المدنية والخدمة العسكرية، "وكثير ممن دُمجوا في الخدمة العسكرية انضموا لاحقاً لعصابات الإجرام"، وفق فرح، لأن لديهم وصولاً للأسلحة في الجهاز العسكري. ويوضح أن "من يسيطر على عصابات الإجرام المنظّم في المجتمع العربي هو الشاباك وليس الشرطة"، معتبراً أن "هذا جزء من سياسة السيطرة على المجتمع الفلسطيني في الداخل، فالدولة لا تريد التعامل مع المواطنين العرب بشكل متساوٍ، لذلك تستخدم أساليب السيطرة والقمع والترهيب من خلال عصابات الإجرام".

سياسة إفقار

تمعن الحكومة الإسرائيلية أيضاً في سياسية إفقار المجتمع العربي، بهدف إضعافه أكثر، وربما دفع ما استطاعت منه، للحصول على قروض من عصابات الإجرام، أو ما يُسمى "السوق السوداء". أدى ذلك إلى توريط عدد كبير من فلسطينيي الـ48، وهو ما ينتهي أحياناً بجرائم قتل أيضاً. كما أن ثلث الميزانيات فقط رُصد من أجل المجتمع العربي بحسب قرار الحكومة 550، في إطار خطة خمسية شاملة لسد الفجوات أقرت عام 2021، خرجت إلى حيز التنفيذ في آخر عامين، فيما تضاف إلى ذلك ملاحقة العمال العرب.

ثقة معدومة

لا يثق المجتمع الفلسطيني في الداخل بمؤسسات الدولة، وبقدرته على التأثير، بعد موجة الاعتقالات في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، وقبل ذلك في هبة مايو/ أيار (رافقت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2021)، وموجة الاعتقالات والاعتداءات آنذاك. مع هذا يرى فرح أنه "في الأشهر الأخيرة نشهد استعادة لثقتنا بأنفسنا ومؤسساتنا العربية في الداخل، ومحاولة إعادة تنظيم النشاط الاحتجاجي وكذلك العمل السياسي". وفي اعتقاده فإن "تمزيق القائمة المشتركة (انقسام في الكنيست في آخر انتخابات برلمانية عام 2019) والحوار السياسي بين الأحزاب السياسية، أضعف قدرتنا على التحرك الجماعي"، موضحاً أنه "حتى حين تدعو لجنة المتابعة لتظاهرة مثلاً، نلاحظ أن جزءاً من أعضاء الكنيست، ومنتخبي وممثلي الجمهور العربي لا يشاركون، أو لا يحشدون للنشاط". ويرى أن "هناك أزمة ثقة داخل القيادة السياسية... لكن هناك استعادة للجرأة والشجاعة من قبل الناس، للوقوف وقول كلمة حق في هذه الفترة، حول ما يحدث مع الشعب الفلسطيني".

تعرية الفلسطيني من انتمائه

حاولت إسرائيل تعرية المواطن الفلسطيني من انتمائه عبر تشريعات عديدة سنها الكنيست الإسرائيلي، وفق ما ذكرته بكر، مثل قانون منع لم الشمل (2002) ومنع المؤسسات من إحياء ذكرى النكبة (2011) وتعريض كل من يدعو لمقاطعة إسرائيل، بما يشمل مستوطناتها في المناطق المحتلة، للمساءلة القانونية (2011)، إلى جانب سحب الجنسية بحجة "خيانة الأمانة والولاء للدولة" (2008)، وطرد عوائل المواطنين الذين قاموا أو حاولوا القيام بأعمال عدائية ضد الدولة (2023)، وسحب المواطنة وطرد أسرى حصلوا على رواتب من السلطة الفلسطينية (2022)، وغيرها من القوانين التي تستهدف المواطنة.

الأسرلة ومعركة الوعي

شكّلت أحداث الانتفاضة الثانية (سبتمبر 2000) إلى جانب هبة القدس والأقصى في الداخل، بحسب الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، خالد عنبتاوي، "منعطفاً وفصلاً جديداً في العلاقة بين المجتمع الفلسطيني في الداخل والمؤسسة الإسرائيلية". يقول عنبتاوي لـ"العربي الجديد" إنه "لا بد من التأكيد بأنها كانت انتفاضة سياسية (هبة القدس والأقصى) بوصفها هبة عبرت عن انتماء الداخل لقضية الشعب الفلسطيني بعد أن عمّت معظم بلدات الداخل الفلسطيني وارتقى فيها 13 شهيداً، أي لم يخرج الداخل لقضية مطلبية أو خدماتية، بل سياسية بالدرجة الأولى". وفي رأيه أسقطت هبة القدس والأقصى "أوهام الأسرلة والاندماج المشوّه، وأكدت ورسّخت الوعي الوطني، مراكمة بذلك على هبّات سبقتها كيوم الأرض 1976

ويضيف أن "المؤسسة الإسرائيلية شخّصت ذلك وعملت على إعادة تعريف بعض تقنيات سياستها تجاه المجتمع في الداخل لناحية اشتداد بعدي الضبط والقمع السياسي من جهة، والاحتواء المشروط والمبتور، على المستوى الاقتصادي من جهة ثانية".