العدد 1683 /1-10-2025

علي العبدالله

جاء تقرير وكالة رويترز (26/9/2025) عن تعليق إعلان اتفاق أمني بين الكيان الصهيوني والسلطة السورية الجديدة، إبان اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، على الضدّ من موجة تفاؤلٍ أطلقها المبعوث الأميركي الخاصّ إلى سورية توم برّاك، الذي أعلن قرب التوصّل إلى اتفاق، قالت تسريبات صحافية إن الطرفين اتفقا على 99% من نقاطه، ما أثار أسئلة عن أسباب التعثّر الحقيقية ومدى دقّة ربط التعثّر بالطلب الصهيوني فتح "ممرّ إنساني" بين الجولان السوري المحتل ومحافظة السويداء.

ارتبطت فكرة فتح "ممرّ إنساني" بين الجولان السوري، الذي يحتلّه الكيان الصهيوني منذ العام 1967، ومحافظة السويداء بعد المواجهة الدامية التي وقعت بين السوريين، البدو والدروز، في المحافظة (يوليو/ تموز الماضي)، وانخراط قوات السلطة الجديدة فيها، والمجازر المروّعة بحقّ الموحّدين الدروز، واستغلال الكيان الصهيوني الموقف، ليس فقط بالدخول في خطّ المواجهة لصالح الدروز، إذ قصفت إسرائيل قوات السلطة في محيط محافظة السويداء ومبنى رئاسة الأركان التابع لوزارة الدفاع السورية في العاصمة دمشق، بل لفرض شروطه وتصوّراته حول الترتيبات العسكرية والأمنية في ثلاث محافظات سورية تقع جنوبي العاصمة السورية (القنيطرة ودرعا والسويداء)، التي يريدها منزوعة السلاح. وقد جاء قرار السلطة فرض حصار على محافظة السويداء، ومنع دخول المواد الغذائية والأدوية والمحروقات وقطع الإنترنت، للضغط على الموحّدين الدروز عبر إقناعهم بأن حياتهم بكل تفاصيلها بيد سلطة دمشق. وبما يتناسب وسرديته عن حماية الموحّدين الدروز، نقل الكيان مساعدات غذائية وأدوية إلى المحافظة بواسطة المروحيات، وطالب بفتح "ممرّ إنساني" بين الجولان المحتل ومحافظة السويداء لتسهيل نقل الدعم بكميات كبيرة، والسماح لأبناء السويداء بالتنقّل بين الجانبين للعلاج والتسوّق.

تبنّت الإدارة الأميركية طلب فتح "ممرّ إنساني"، فوضعته ضمن تصوّرها لضبط الموقف بين السلطة السورية الجديدة والكيان الصهيوني، وفق ما نقله موقع أكسيوس الأميركي في 12 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وتوسّطت بين الجانبين للتفاوض حول اتفاق على ترتيبات أمنية، من دون أن تضغط على الكيان لوقف اعتداءاته وتوغّلاته وإزالة المواقع العسكرية التي أقامها في الأراضي السورية. وبدأت المفاوضات بلقاءات مباشرة على المستوى الأمني من دون شروط مسبقة من السلطة، التي لم تلحظ تبعات التدخّل الصهيوني وما أحدثه من تغيير في الأرض، ما عنى للكيان قبولها الأمر الواقع واستسلامها للضغط العسكري، فتقدّم باقتراح مفصّل لاتفاق أمني جديد ينهي اتفاقية فضّ الاشتباك الموقّعة عام 1974، الذي سبق وأعلن انتهاءها بعد سقوط النظام البائد، في تعارض صريح مع العُرف الدولي الذي يعتبر أن الاتفاقات بين دول، وليست بين أنظمة، ما يبقيها ملزمة، حتى لو تغيّر النظام الذي وافق عليها ووقّعها. وتضمّن الاقتراح خريطةً للمناطق منزوعة السلاح تبدأ من جنوبي دمشق وتنتهي عند الحدود السورية مع الأردن والجولان المحتل.

لم تكتفِ السلطة بارتكاب حماقة التفاوض مع الكيان مباشرة ومن دون شروط تتعلّق بالتراجع عما أحدثه من تغيير في الأرض، بل ذهبت إلى حماقة أكبر بدخول مفاوضات سياسية، فعقد وزير خارجيتها ثلاثة لقاءات مع وزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني رون ديرمر، لقاءان في باريس وثالث في لندن، مع إشاعة تقديرات متفائلة عن حصول تقدّم في المفاوضات وقرب الاتفاق على ترتيبات أمنية بين الجانبَين. اقترح الكيان الصهيوني خريطة تقسّم المنطقة الجنوبية، حيث محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، جنوبي العاصمة دمشق، بين ثلاث مناطق لكلّ منها ترتيباتها بخصوص حجم الانتشار العسكري ونوعية التسلّح، مع جعلها منطقةَ حظر طيران مروراً بمنح الطيران الصهيوني ممرّاً جويّاً للعبور نحو العراق وإيران، وصولاً إلى منع نشر دفاعات جوية وصواريخ بعيدة المدى في الأرض السورية كلّها. وكشف هذا الاقتراح الصهيوني حدود نفوذه الكيان المطلوب داخل الأرض السورية ومدى تقويضه السيادة السورية وتحطيمه الكبرياء الوطنية.

حاولت السلطة الالتفاف على مطلب فتح "ممرّ إنساني" بين الجولان المحتل ومحافظة السويداء بالعمل على فصل ملفّ محافظة السويداء عن ملفّ الاتفاق الأمني مع الكيان الصهيوني، عبر الاتفاق مع الأردن بمشاركة المبعوث الأميركي إلى سورية توم برّاك على خريطة طريق لحلّ الملفّ الأول، مع السعي لتثقيله، وتسويقه عبر العمل على اعتماده وثيقةً رسميةً في مجلس الأمن، لكن يبدو أن الكيان الصهيوني أجهض المحاولة عبر تأكيد رئيس وزرائه أن هدف المفاوضات الأمنية بين الجانبَين "التوصّل إلى اتفاق يحترم سيادة سورية ويحمي الأمن الإسرائيلي وأمن الأقلّيات في المنطقة، بما في ذلك الأقلّية الدرزية"، من جهة، وبالعودة، من جهة ثانية، إلى المطالبة بفتح الممرّ في اللحظة الأخيرة. كان هذا الطلب قد رُفض في لقاء باريس الأول بين الشيباني وديرمر (19/8/2025)، ما جعل التوصّل إلى صيغة نهائية غير ممكن. كانت السلطة متحمّسةً لإعلان الاتفاق خلال وجود رئيسها في نيويورك، على أمل أن يدفع هذا الإعلانُ الإدارةَ الأميركية وأعضاءَ في الكونغرس ما زالوا يتحفّظون على رفع العقوبات (قانون قيصر بشكل خاص) إلى رفعها، أو إلى تخفيف المطالب والشروط المرتبطة بذلك على أقلّ تقدير.

أثار تعثّر الاتفاق الأمني أسئلةً وشكوكاً حول خلفية وحقيقة الخلاف ومداه والدوافع التي حكمته، وربط محلّلون بين الدفع نحو تعليق الإعلان ورغبة أميركية بإحكام السيطرة في سورية أكثر، إذ ما زالت السلطة السورية تناور وتتهرّب من تنفيذ بعض المطالب، فجاء الدفع نحو التعليق مع تصعيد عسكري صهيوني، فشهد الجنوب السوري (يوم الجمعة الماضي) تصعيداً ميدانياً جديداً تمثّل في عمليات توغّل نفّذتها قوات الكيان الصهيوني في أرياف القنيطرة ودرعا، بالتزامن مع تحليق مكثّف للطائرات الحربية وطائرات الاستطلاع في أجواء عدّة محافظات سورية، لوضع ضغط أكبر على السلطة لدفعها للإسراع في الاستجابة لشروط أميركية ما زالت غير منفّذة، في حين ربط تقدير سياسي بين تعثّر الاتفاق وتحرّك تركي مضاد وجد في الاتفاق مكاسب جيوسياسية للكيان الصهيوني على حساب المصالح التركية، وكان مصدر رسمي في السلطة السورية قد نفى أن يكون فتح "الممر" خلف تعثّر الاتفاق وتأجيل إعلانه، من دون أن يكشف السبب الحقيقي.

ليس لتعثر الاتفاق وتعليق إعلان بنوده كبير أهمية في نظر المجتمع السوري بقدر أهمية معرفة طبيعة الاتفاق وبنوده، وما سيترتّب عليه من استحقاقات تتعلّق بالسيادة السورية ومصالح المواطنين. فالسلطة تتعمد عدم إطلاع المجتمع على ما يدور، تجرّب بحياة المواطنين ومستقبل أولادهم من دون تبصّر ولا حسابات ناضجة، وحين تكتشف أنها قد دخلت طريقاً لا يحقّق تطلّعاتها، تتحرّك لاحتواء نتائج قراراتها وممارساتها السلبية بمزيد من التورية وإشغال المواطنين بالبهارج والاحتفالات والانتصارات الخلّبية، مثل التهليل لعقود استثمارية ضخمة وُقّعت مع شركات تبيّن أنها شركات وهمية، وإعطاء أولوية لمشاريع ذات صدى مثل بناء أبراج في مناطق ينتظر أبناؤها إعادة إعمارها لحلّ مشكلة السكن وفق تكاليف معقولة، ومن دون اعتبار للواقع وضروراته، ومهرجانات جمع تبرّعات في مراكز المحافظات، واعتبارها إنجازاً ثورياً، علماً أن المبالغ التي جمعت مبالغ صغيرة لا تحلّ مشكلات المحافظات الخدمية والصحّية والتعليمية.

يستدعي تعثّر الاتفاق من السلطة إعادة نظر في مقاربتها للمفاوضات، والرجوع خطوة إلى الوراء بتعليق المفاوضات المباشرة، ووضع شرط غير قابل للتفاوض يقضي بتحديد هدف المفاوضات في العودة إلى اتفاقية فضّ الاشتباك عام 1974، مع تعديلات طفيفة، لتأكيد حسن النيّات، لتصبح "1974+"، وألا تقبل بأن يكون هدف المفاوضات اتفاقيةً جديدةً محكومةً بتوازن القوى، تُفرَض تحت الضغط العسكري الصهيوني. وهذا يستدعي بدوره عدم "الاندلاق" على الإدارة الأميركية لرفع العقوبات وتبرير ذلك بحلّ المشكلات الاقتصادية في البلاد، فاعتبار الاستثمار وإعادة الإعمار أولويتين فيه قفز عن ضرورة الاستقرار الداخلي لتوفير بيئة جاذبة للاستثمار، وهذا غير متوفّر، والحديث بهذه الصيغة استمرار لنهج تجاهل مواقف قوى اجتماعية وسياسية من توجّهات السلطة ومحدّداتها، واستدراج دول للقبول بهذا التوجّه عبر إغرائها بفرص استثمارية مجزية... سياسة قاصرة، في حين أن المطلوب العودة إلى الاهتمام بالوضع الداخلي واعتماد سياسة تبعث روح التوافق والتضامن الوطني عبر مقاربات تلحظ التباينات في التوجّهات والمصالح، والبناء على أسس تشاركية وتعددية.