العدد 1571 /19-7-2023
ونحن نستقبل العام الهجري 1445، ونستعيد
ذاكرة أحداث الهجرة النبوية وقيمها ودروسها في السيرة النبوية العطرة، علينا
أفرادًا وجماعات وأمة إسلامية أن نُجدِّد مبادئ الهجرة المباركة في نفوسنا، ونتأمل
في أحداثها ونحقق معنى - الرسول قدوتنا - ونستلهم منها المعاني والدلالات التي
تنير طريقنا نحو المستقبل، ونحو التحرر الكامل من العبودية لغير الله في الاعتقاد
والتصور، والفكر، والوجدان، والأعمال، والدعاء، والتوكل.
فلم تكن الهجرة النبوية هجرانًا
للأوطان، ولا قطيعة للأرحام، ولا تنكُّرًا للنشأة اﻷولى، بل كانت رفضًا للظلم
والبغي والعُدوان، وطلبًا للحرية والكرامة، وتمايزًا عن الباطل والكذب والجاهلية،
وما كان المهاجرون إلا دعاة خير وإصلاح وفضائل، وما كانت هجرتهم لدنيا ولا غنيمة،
بل كانت هجرتهم لله ولرسوله.
لقد أخرج المشركون المعتدون النَّبيَّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهو
الذي عاش قبل البعثة معروفًا بينهم بالصدق والأمانة ورجاحة العقل، لقد حضر -وهو
طفل- اجتماع حِلف الفضول الذي تعاهد فيه أشياخ من قريش على نصرة المظلوم، وظلَّ
يُثني على عبدالله بن جدعان الذي دعا لهذا الحلف، ويصف المتحالفين علي الخير بأنهم
-أشياخي- أمَّا في شبابه قبل البعثة فقد
وقف يدافع عن مكة بكل ما أوتي من قوة في حرب الفجار التي استهدفت قومه وبلده، وهو
ذلك الرجل الأغرُّ الذي كان سببًا في حقن دماء قومه، وحمايتهم من حرب داخلية فيما
بينهم، يوم وضع الحجر الأسود في الكعبة؛ فأشار عليهم بمشورة المخلص المشفق، وهو
الرجل الذي كان معروفًا - في مكة قبل
البعثة- بأنه يحمل الكَلَّ، ويُقري الضيف، ويُكسب المعدوم، ويُعين على نوائب
الدهر، ومع كل هذا لما نادى فيهم بدعوة الحق وإقامة العدل وصلة الرحم، آذوه في
نفسه وماله وأهله، وعذَّبوا أصحابه، بل وحبسوهم وقتلوا منهم، وحاصروا كل من رفض
الظلم، أو أدان الباطل، أو احتَجَّ على الإفساد حتى لو كان غير مسلم، وأنفقوا أموالًا طائلة على تشويهه
وتشويه دعوته، وتَنفير الناس منه ومن أصحابه.
الهجرة ليست دروسًا وعبرة مُنقضية في زمانها؛ بل مَعين دائم يتجدد في كشف
جوهر دعوة الإسلام، وسنن الأنبياء، فما من نَبيٍّ إلا وأخرجه قومه من وطنه ظلمًا
وعدوانًا، وهي سنة في المصلحين والدعاة مع المتجبرين والطغاة.
وليست الهجرة قصة تاريخية وَعْظية؛ إنما هي منهج إسلامي عملي في رفض الظلم،
وإباء الضيم، وعدم الانصياع للباطل، هي انتصار للعقيدة الإسلامية في أسمى آثارها:
الإيمان، والحرية، وانعتاق الناس من المظالم.
لقد هاجر المسلمون رجالًا ونساءً وأطفالًا، هاجر الأقوياء والأغنياء، كما
هاجر الضعفاء والفقراء، تجمعهم قضية واحدة وقلوبهم مؤمنة ونفوسهم أبيَّة، وكانت
الهجرة نافذة لشرح قضيتهم، وإعطاء فرصة
للناس أن تسمع الحق، وتختار وتقارن بين المفسدين والمصلحين.
الهجرة لم تكن انصرافًا عن المستضعفين، ولا عن قضايا الأوطان وأوجاعها،
فحُب الأوطان فطرة فطرها الله في النفوس، بل كانت سعيًا لنصرة المستضعفين وتحريرهم
من المظالم التي تَعوق تقدم الأوطان ونهضتها، وتسحق البشر، وتشُلُّ قدرتهم على
التفكير والإبداع، أو تُحولهم إلى فقراء أو لاجئين، يبحثون عن أسباب الحياة.
ما
أشبه الليلة بالبارحة! فبعد غياب الدور الرِّيادي للمسلمين، وتهميش دور الشعوب
والقوى الوطنية، وسحقها تَجرَّأ المعتدون، وأسرفوا في العدوان، وأكبر مظهر دالٍ
على ذلك ما أقدم عليه معتوه حاقد بحرق المصحف الشريف في السويد باسم القانون
والحرية دون مراعاة لملايين المسلمين، بل وتعمَّد -ومن وراءه من قوى عالمية ووسائل
إعلام، ومنظمات معادية للإسلام- إهدار
مشاعر المسلمين والاستهزاء بها، وبغياب
الدور الرِّيادي والحضاري للمسلمين في العالم المعاصر خسرت البشرية جمعاء على
مستوى المعاملات والأخلاق، وخسرت على مستوى حقوق الإنسان، وأكبر الخسائر
خسارة ميزان العدل والإنصاف.
وهاتان سفينتان: سفينة تحمل 750 إنسانًا من
العرب والمسلمين الباحثين عن الحياة، الهاربين من جحيم الفقر والاستبداد، يستغيثون
ما يقرب من 13 ساعة، فلا يُقدَّم لهم طوق واحد للنجاة، بل كان التجاهل حال محنتهم
وبعد غرقهم، كأنهم ليسوا من جنس البشر، و
بالمقابل سفينة أخرى مجهزة بكل أنواع الأمان الممكنة، فيها عدد قليل لا يتجاوز
أصابع اليد -من أثرياء العالم- في رحلة ترفيهية مغامرة، ولكنها تنقطع عن الاتصال
فيهُبّ العالم بالطائرات، والسفن، والفرقاطات،والأقمار الصناعية، ووسائل الإعلام... حياة الإنسان مهمة -غنيًا أو فقيرًا-
لكنَّ الكيل بمكيالين يُؤسس للتمييز والعنصرية، وخلق الفجوات في المجتمعات
الإنسانية.
إن
الهجرة النَّبوية المباركة أسست للعدالة، والحرية والمساواة، وأحبطت العنصرية،
وحاربت التمييز، ولما عاد النَّبي منتصرًا أخذ بيد بلال بن رباح الحبشي؛ ليتقدم مع
الرسول على أشياخ قريش لكونه كان أسبق لقبول الحق، والانحياز للعدل والرغبة
الصادقة في الحرية، فليس لعربي على أعجمي فضل ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى
والعمل الصالح.