العدد 1648 /22-1-2025

المهدي مبروك

تداعت أول من أمس السبت إلى إحدى الفضاءات الثقافية في وسط العاصمة تونس ثلّة من الوجوه السياسية البارزة ونشطاء جمعويون، تلبيةً لدعوة أطلقتها الهيئة الوطنية للدفاع عن الحرّيات والديمقراطية، التي يقودها المحامي العيّاشي الهمّامي، وهو الذي أطلقها منذ ثلاث سنوات تقريباً. وعرف الهمّامي بإضراب الجوع الشهير الذي انطلق في أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وأدّى إلى تشكّل جبهة 18 أكتوبر لاحقاً، وكان لها الأثر البارز في تفكّك نظام زين العابدين بن علي. عُيّن الهمّامي وزيراً مكلّفاً بالمجتمع المدني مع حكومة إلياس الفخّفاخ سنة 2020 مدّةً قصيرةً قبل أن تستقيل فاتحةً لتجربة الانتقال الديمقراطي نفقها المظلم، ولينقلب الرئيس قيس سعيّد على المسار في ظرف وجيز وبشكل مُحيّر أمام التسليم بهذا المآل.

في مناخ التشرذم استطاع سعيّد الزحف على مربّعات الانتقال الديمقراطي

تأتي هده الدعوة إثر فوز سعيّد (أكتوبر/ تشرين الأول 2024) بولاية جديدة في انتخابات شهدت غرائبَ ومفاجآت سريالية، وما زال التونسيون يتساءلون إن كانت بلادهم قد شهدت فعلاً انتخابات رئاسية تليق بتاريخها السياسي، فضلاً عن تضحيات أجيال متعاقبة من أجل إنجاز انتخابات حرّة ونزيهة، تعدّدية وشفّافة. شهدت الانتخاباتُ نسبةَ إقبال ضعيفة في مناخ من الخوف والإقصاء وتدخّل القضاء لاستبعاد المنافسين الجدّيين، ورغم إلغاء المحكمة الإدارية جلّ تلك الأحكام، التي أعادت إلى السباق الانتخابي من أبعدهم القضاء العدلي، لم تذعن الهيئة العُليا للانتخابات لتلك الأحكام، ورأت أن ولايتها على الانتخابات تعفيها من ذلك. كما تأتي هذه الدعوة قبيل بدء "موسم" المحاكمات لثلّة من الموقوفين بتهمة التآمر، بعد سنتَين من الإيقاف تقريباً، وهي محاكمات يُخشى أن تكون غير عادلة، وقد تصدر أحكاماً ثقيلةً نظراً إلى خطورة التُّهم الموجّهة إلى أعضاء المجموعة، وهم في جلّهم قادة أحزاب أو شخصيات سياسية وطنية خاضت نضالاً ضدّ الاستبداد زمن بن علي: عصام الشايب زعيم الحزب الجمهوري، وعبد الحميد الجلاصي الذي قضى أكثر من عشر سنوات سجيناً زمن بن علي، وغازي الشواشي المحامي وزعيم التيّار الديمقراطي، وخيام التركي، و جوهر بن مبارك... فضلاً عن جلّ قيادات الصفّ الأوّل من حركة النهضة، الذين تتالت الأحكام الصادرة في حقّهم منهم راشد الغنّوشي، ونور الدين البحيري، وعلي العريّض، وغيرهم، ويقبعون في السجن فترةً طالت أكثر من عامَين تقريباً بتهم عديدة نُسبت إليهم: التسفير والفساد وتمويل الحركة، تهم ينفيها هؤلاء ويرونها كيديةً.

ليست هذه المبادرة الأولى التي تدعو إليها "الهيئة الوطنية" فلقد سبقتها مثيلات لها قبيل الانتخابات وبعدها، غير أن جُلّها تعثّر، أبرزها التي شُكِّلت قبيل الانتخابات، إذ حرصت على جمع شتات المعارضين للرئيس قيس سعيّد، غير أن ذلك لم يؤدِّ حقيقةً إلى تشكيل جبهة انتخابية واسعة، بل قُبِرت المبادرة في المهد لعدة اعتبارات، لعلّ أهمها عجز الذين التفّوا حولها على تجاوز حالة الشرخ الحادّ بين "النهضة" وحلفائها من جهة، وخصومهم من جهة ثانية. لم تستطع المبادرة أن تجمع جبهة الخلاص الوطني، التي حُسِبت عليها، وما سُميّت الجبهة الديمقراطية التي بدورها تشتّتت. في المقابل، شكّل مناهضو "النهضة" شبكةً للدفاع عن الحرّيات، وهي شتات ممّا تبقّى من الجبهة الشعبية ونشطاء جمعويين يساريين. وهؤلاء كلّهم أطياف ضعيفة لا قدرة لها على تعبئة الشارع ولا تحريكه.

في مناخ التشرذم هذا، استطاع الرئيس سعيّد أن يزحف على مربّعات الانتقال الديمقراطي واحداً واحداً، وأن يبسط هيمنته على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، وفكّك مؤسّسات الانتقال الديمقراطية الواحدة تلو الأخرى، وانتصب حاكماً بأمره لا قدرة لأحد تقريباً على معارضته معارضةً حقيقية... كيف حدث ذلك كلّه؟ هو السؤال الذي بدأت به الندوة، وطرحه الأكاديمي والنقابي عبد السلام الككلي، داعياً الجميع إلى الإقرار بأن مسؤولية الفشل تقع على عاتق الجميع، من حكموا ومن عارضوا، بما فيهم مكوّنات المجتمع المدني. أمّا مدير الديوان الرئاسي زمن حكم الرئيس منصف المرزوقي، عدنان منصر، فذهب إلى اعتبار أن التحالفات الحاكمة التي تشكّلت خلال عشرية الانتقال لم تكن قائمةً على مبدئية وبرامج سياسية، بل كانت قائمة على تقاسم السلطة، فاقدةً أيّ مشروع جماعي للحكم، داعياً إلى استعادة الثقة في الديمقراطية قبل الثقة في الديمقراطيين، مصرّاً على أنها أُفقِدت جاذبيتها لدى طيف واسع من الناس، مؤكّداً الهزيمة الأخلاقية التي لحقت بمشروع الانتقال الديمقراطي برمّته، وذلك ما يُبرّر هذا القبول بشعبوية سعيّد، رغم أنها لا تنجز شيئاً في الأرض. في حين عدّدت الأكاديمية فتحية السعيدي، وهي إحدى الوجوه البارزة لليسار النسوي، فضلاً عن أنها من قيادات حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً)، أخطاء الذين حكموا، خصوصاً حزب النهضة، داعيةً إلى أن تقدّم الحركة مراجعات علنية حتى يُعمل بها في جبهة واسعة، لأن الثقة منعدمة لما ارتُكِب من أخطاء.

ورغم تباين وجهات النظر في المداخلات الثلاث التي تعكس ما يدور حالياً في وسط نخب الانتقال الديمقراطي، خصوصاً من لم يصطفّوا مع قيس سعيّد، توحي المؤشّرات أن التقدّم باتجاه بناء الحدّ الأدنى المشترك بين الفرقاء يكاد يكون حالياً مُستبعَداً، ودليل ذلك أن هذه الندوة الفكرية قاطعها طيف واسع، إذ لم يحضر الاتحاد العام التونسي للشغل، علاوةً على منتسبي الجبهة الشعبية، وهي لفيف من التشكيلات اليسارية القصوى. في هذا المناخ من الدعوة إلى المراجعات لاستعادة التجربة الديمقراطية الموؤودة، يدور حديث خافت داخل أوساط الرئيس، أو المحسوبة عليه، حول إمكانية أن ينطلق خلال الربيع المقبل حوار وطني، غير أن المؤشّرات كلّها توحي باستحالة ذلك لأسباب عديدة، أوّلها أن الرئيس لا يؤمن بالحوار أصلاً، وقد صرّح في مناسبات عديدة عن رفضه هذه الفكرة، وهو لا يرى لها أيَّ مُبرِّر بعد أن استوى على العرش من دون أيّ حرج أو معارضةٍ تُذكر، غير أن بعضهم يثير إحراجات السياقات الحالية، سواء التي تحدّدها التغيّرات الجيوسياسية في المنطقة أخيراً، أو تفاقم الأزمة الاقتصادية على المستوى الداخلي.