العدد 1645 /1-1-2025

برز بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، دور "حكومة الإنقاذ السورية" التي كانت قد تأسست في إدلب، لتنتقل مع سقوط النظام إلى دمشق، وتتولى إدارة البلاد، تحت تسمية "حكومة تسيير الأعمال"، على أن يكون عملها لمدة ثلاثة أشهر، تتشكل بعدها بحسب ما أعلن رئيسها محمد البشير، حكومة انتقالية. وأثار قرار تكليف "حكومة الإنقاذ" إدارة سورية العديد من التساؤلات عن مدى قدرة هذه الحكومة على تسيير أمور البلاد من منطلق أن إدارة إدلب لا يمكن مقارنتها بإدارة سورية، فضلاً عن أن "حكومة الإنقاذ" كانت محط انتقاد من سكان إدلب أنفسهم، بسبب بعض الممارسات الإقصائية التي مارستها على مستوى بعض الإدارات واعتماد مبدأ الولاء على مبدأ الكفاءة، إضافة إلى احتكار بعض الخدمات. كذلك يسجل على "حكومة الإنقاذ" حالة "العداء" التي حكمت رؤيتها لعمل النقابات والتوجس تجاه منظمات المجتمع المدني، فضلاً عن فصل الإناث عن الذكور في المدارس، تحديداً في مرحلتي الأساسي والثانوي، الأمر الذي يدفع سوريين إلى اعتبار أن ممارساتها لم تكن بالمستوى الذي يطمح السوريون إليه بعد الخلاص من نظام الأسد، وهو ما يعزز المخاوف من نقل التجربة من إدلب إلى عموم سورية.

وتشكلت "حكومة الإنقاذ" السورية أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2017 باعتبارها جهة إدارية في محافظة إدلب شمال غربي سورية، بعد عقد "المؤتمر السوري العام" الذي اختتم في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، بتكوين جمعية تأسيسية برئاسة بسام صهيوني، وتمكنت من المحافظة على حالة من الاستقرار النسبي في مناطق نفوذها.

قامت "حكومة الإنقاذ" السورية على أنقاض مجالس محلية وهيئات خدمية تتبع لفصائل أو مجالس محلية أهلية بعد صراعات عسكرية في المنطقة، انتهت بسيطرة "هيئة تحرير الشام" على ما تبقى من مجالس محلية كانت تتبع للحكومة السورية المؤقتة، لتتمكن "حكومة الإنقاذ" بعدها من إحكام الإدارة على جميع المناطق التي تقع تحت سيطرة "تحرير الشام".

تألفت الحكومة في نسختها الأولى من 11 وزارة ورئيس الحكومة محمد الشيخ، واستمرت في ذات العدد حتى تشكيلها الأخير. واتبعت "حكومة الإنقاذ" نظام "الإدارات" التي تشبه البلديات في إدارتها لمحافظة إدلب، وبلغ عددها ثماني إدارات. لم تحصل الحكومة على اعتراف دولي علني نتيجة ارتباطها بـ"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، لكنها أخذت شرعيتها على المستوى الأهلي والإقليمي ضمن ظروف الأمر الواقع.

يقول المحلل السياسي عباس شريفة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "على الرغم من عدم حصول حكومة الإنقاذ على اعتراف سياسي، لكن كان هناك تعامل على الأساس الإنساني، حيث استطاعت الحكومة تنظيم الدعم الخارجي المقدم إلى السكان، ما أعطاها دوراً كبيراً واعترافاً جزئياً ضمنياً".

وتُعرّف "حكومة الإنقاذ" نفسها بأنها حكومة "تكنوقراط" تُقدّم الكفاءات، لكن موظفاً سابقاً في إحدى إدارات الحكومة يؤكد أن ذلك لم يكن قائماً بالفعل. ويروي محمد رامي، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي، تجربته الوظيفية لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "كانت بيئة العمل الحكومية ذات طابع أمني، وهو ما لا يعطي ارتياحاً للموظفين العاديين (المعينين بالكفاءة). وقد التحقتُ بالوظيفة بالطريقة الرسمية عبر تقديم سيرتي الذاتية ومقابلة موظف الموارد، الأمر الذي لا يفعله جميع الموظفين الموجودين والمُعيَّن الكثير منهم بحسب الولاء، حيث كان هنالك ما يشبه التقسيم الوظيفي، بين طبقة أعلى هم محسوبون على أشخاص لهم صفة في الحكومة ويدينون بالولاء لهم، والملتحقين بالطريقة الرسمية. أنا لا أعرف المدير العام، ولم ألتقِه قطّ، ولا يمكن إلا لموظفي الولاء مقابلته، وهذا لم يكن مريحاً لي، لأختار بعدها الاستقالة والبحث عن عمل آخر".

وكثيراً ما كان يجري التكهن بسياسة الحكومة في التوظيف والترقية أو الاستقالة. وحدث أن استقال أحد رؤساء "حكومة الإنقاذ" نتيجة قضية لم تُكشَف ملابساتها، فيما أقيل عميد في إحدى كليات جامعة إدلب، ما تسبب في وقفة احتجاجية لطلاب الكلية.

ويصف وزير سابق وعضو مؤسس في الحكومة، حكومة بسام صهيوني عبر قناته في تليغرام، بأن التعيين فيها كان يقوم على أساس الولاء وليس الكفاءة، في حال غياب الخبرة والتحصيل العلمي، وحصول عبث بالمؤسسات والمجالس المحلية والنقابات والبلديات، وحتى الوزارات.

ويقول طالب كلية الصيدلة سامي عبد الرحيم، لـ"العربي الجديد"، إنه حاول التقدم إلى وظيفة حكومية في صيدلية خيرية تتبع لمستشفى حكومي. ويضيف: "كنت قد سمعتُ بمصطلح "المحسوبيات" كثيراً، لكني لم أدركه تماماً حتى عايشته عندما تقدمت إلى الوظيفة، ليصلني الرفض، وأجد أن الناجح فيها طالب في سنة ثانية في الكلية، وذو معدل متواضع فقط لأنه محسوب على الإخوة (أشخاص يتبعون لجهة عسكرية)".

توافر السلع وضرائب عشوائية

لم تُعلَن السياسة الاقتصادية التي ستتبعها حكومة تسيير الأعمال بعد سقوط نظام الأسد، على الرغم من محاولتها الإيحاء بأنها تدعم الاقتصاد الحر، لكن هذا لا يتوافق مع اتهامات تطاولها بالاحتكار والمحاصصة خلال تجربة إدلب.

الخبير الاقتصادي يونس كريم يتحدث عن النموذج الاقتصادي في "حكومة الإنقاذ"، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لا وجود لنموذج واضح لاقتصاد حكومة الإنقاذ، لكنها اعتمدت سياسة اقتصادية في حصر الخدمات ضمنها والاستئثار بقطاعات السيولة وكذلك تقييد القطاعات الخاصة، ما أدى بطريقة ما إلى خلق منظومة عامة تجارية واقتصادية ترعاها الحكومة سيضطر الجميع إلى الانخراط بها".

وتُساهم الضرائب التي تفرضها الحكومة في تعويض نقص الموارد الذي تعاني منه، على الرغم من توقعات بأرباح هائلة تأتي من المعابر، ويتساءل الكثيرون عن شكل النظام الضريبي الذي تنتهجه الحكومة وعن غياب الشفافية وطريقة الصرف. وفي هذا الصدد يقول كريم: "إن عدم تحديد النظام الضريبي جعل طريقة أخذ الضرائب شبيهة بفرض الإتاوات حيث لم يُعلَن شكل النظام الضريبي أو تحديد السياسة الضريبية". وفيما يُعتقد أن الضرائب كانت تضاف إلى خزينة "حكومة الإنقاذ" التي كان يعززها أيضاً الإنتاج الزراعي للمنطقة والمساعدات الأممية الكبيرة جداً، حيث تشكل الاستقرار النسبي الاقتصادي وسط اتهامات باقتطاع الحكومة من المساعدات، بحسب يونس كريم، فإنه كانت توجد ثلاث قوى ساهمت معاً في تحديد الحالة الاقتصادية في إدلب هي: المنظمات الأممية والمساهمات الأهلية والإدارة الاقتصادية الحكومية.

وقد عايش سكّان إدلب الاستقرار الاقتصادي النسبي الذي شهدته المنطقة حيث توافرت السلع والمنتجات والوقود عموماً، إضافة إلى انتعاش تجارة السيارات وتوافرها وانخفاض أسعارها مقارنةً بالمناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السابق.

تحسّن نسبي في الخدمات

شكّلت ظروف الحرب المريرة والاكتظاظ السكاني أعباءً كبيرة على القطاعات الخدمية التي تحتاج قدراً كبيراً من الميزانية الحكومية، وخصوصاً في قطاعي الصحة والتعليم، حيث شهدت تلك القطاعات تراجعاً من ناحية الدعم الدولي المقدم من معدات أو رواتب العاملين وغيرها، لتشهد السنوات الأخيرة تحولاً إلى القطاع الخاص في المستشفيات والمدارس.

واستطاعت "حكومة الإنقاذ" إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء، عبر استجرار الكهرباء من تركيا واستقرار توافرها ضمن المناطق التي وصلت إليها. وأدارت المؤسسة العامة لمياه الشرب عملية ضخّ المياه وإيصالها ضمن وحدات موزعة على المدن والقرى، بينما جرى تجهيز البنية التحتية للكهرباء وإيصالها وإدارتها تحت غطاء الشركة الخاصة غرين إنرجي (green energy)، بينما تدير خدمة النظافة شركة خاصة أخرى هي إي كلين (e – clean)، التي تأخذ "رسوم" خدماتها من المستفيدين.

حكومة الإنقاذ ومنظمات المجتمع المدني والنقابات

تسببت ظروف الحرب السورية والنزوح، بدخول أو تشكيل عدد كبير من المنظمات المدنية في إدلب، التي استطاعت "حكومة الإنقاذ" تنظيم عملها وتحركاتها في المنطقة عبر تسجيلها وإعطائها الموافقات اللازمة وخضوعها للرقابة.

واجهت "حكومة الإنقاذ" في إدلب انتقادات عديدة بشأن فرضها قيوداً صارمة على عمل هذه المنظمات وصلت إلى حد التدخّل في الكثير من الأحيان، لكن هذا لم يمنع قيام العديد من المشاريع المشتركة بين الحكومة والمنظمات، كإصلاح شبكات المياه ومشاريع الطاقة المتجددة وتأهيل مرافق عامة، التي أيضاً تخللتها تدخلات في إدارة الموارد وآليات توزيع المساعدات، بحسب ما صرّح مسؤول مالي في إحدى المنظمات (رفض الكشف عن اسمه) لـ"العربي الجديد"، فيما بررت الحكومة أنها تسعى لتنظيم العمل المدني بما يضمن تحقيق المصلحة العامة. كذلك ازداد حضور الفرق والمنظمات النسوية بعد تشكل "حكومة الإنقاذ" تحت شعارات، كتمكين ودعم المرأة، التي أثارت الجدل في كثير من الأحيان.

وشهدت فترة تولي "حكومة الإنقاذ" في إدلب، تشكل نقابات مهنية، لكن البعض منها واجه قرارات بإلغاء دورها التنظيمي أو إعادة التشكيل، كنقابة المعلمين التي نظّم أعضاؤها وقفات احتجاجية في فترات مختلفة، فشهدت إدلب احتجاجات عدة من قبل المعلمين، منها ما كان للاحتجاج على ممارسات مديرية التعليم، ومنها ما يتعلق بالمطالبة بزيادة الرواتب والمطالبة برواتب فصل الصيف الذي منعته عنهم. بينما شهدت نقابة المهندسين القرار الأعنف، حيث صدر قرار بإلغاء دورها في مايو/أيار من العام الماضي والاستيلاء على مبناها، ما ألحق ضرراً بعمل المهندسين، وذلك بسبب محاولة "هيئة تحرير الشام" أن تكون النقابة مجرد واجهة نقابية، وأن تتبع لها من تحت الطاولة، الأمر الذي لم تستجب له النقابة، فأُلغيَت.

التعليم والمناهج الدراسية

عملت وزارة التربية والتعليم في "حكومة الإنقاذ" بإدلب على إعادة تجهيز البنية التحتية المُتعَبة للقطاع التعليمي، وسعت لتحسين الواقع التعليمي، حيث نظمت الحكومة دورات لتأهيل المعلمين وتدريبهم، وقامت بشراكات مع منظمات إنسانية لبناء مدارس جديدة وزيادة الكوادر التعليمية في خضمّ التحديات المستمرة من هجرة الطلاب وتعرّض المدارس للقصف، كذلك زاد الاكتظاظ السكاني الموجود في المخيمات الأعباء الإدارية والتجهيزية. وعلى الرغم من سعي الحكومة لتوحيد النظام التعليمي، إلا أنها تعرضت لانتقادات كثيرة حول تقييد المعلمين من اتخاذ القرارات التعليمية المناسبة وفق الأسس التعليمية المتبعة عالمياً.

وعلى الرغم من أن "حكومة الإنقاذ" وحّدت المناهج التعليمية، إلا أنها ركزت على القيم الإسلامية وأزالت من المنهاج قضايا عديدة متعلقة بالنظام السابق أو لكونها حسّاسة أو مثيرة للجدل بالنسبة إلى المناطق السورية الأخرى. وفي أغسطس/آب 2023، وجهت وزارة التربية والتعليم في "حكومة الإنقاذ" تعميماً طالبت فيه بـ"إزالة الرسوم والصور غير الشرعية المرسومة على الجدران في مدارسكم، ارتداء اللباس الشرعي الساتر الفضفاض من قبل طالبات المرحلتين، الأساسية والثانوية، ارتداء اللباس الشرعي الساتر الفضفاض من قبل كوادر الإناث، الفصل التام بين الطلبة الذكور والإناث للمرحلتين، الأساسية والثانوية، الابتعاد عن الموسيقى والعروض غير اللائقة والمخالفة للضوابط الشرعية على منصات التواصل الاجتماعي التابعة لمؤسساتكم (صفحة فيسبوك) وغيرها، وفي الاحتفالات التي تقيمها المدارس داخل أو خارج المنشآت، الابتعاد عن الموضات المخالفة لتعاليم ديننا وعاداتنا (كحلاقة القزع، المكياج، التبرج وغيرها)". ولم تكن "جامعة حلب الحرّة" بمنأى عن هذه السياسات لجهة فرض منع الاختلاط فيها.

وفيما أكد وزير التعليم السوري في حكومة تسيير الأعمال نذير محمد القادري، في مقابلة صحافية أخيراً، أن المدارس الابتدائية ستظل مختلطة بين الفتيان والبنات، فإنه لفت إلى أنه سيظل التعليم الثانوي يفصل بين الجنسين إلى حدّ كبير، مضيفاً: "طوال حياتنا لم نجبر أحداً على أن ينتسب إلى مدرسة معينة، لكن بطبيعة الحال، الشعب السوري منذ القدم حتى بزمن النظام، هنالك مدارس للإناث بعد المرحلة الأولى ومدارس للذكور، فهذه لن نغير في تكوينها شيئاً، الواقع كما هو لن نغير فيه شيء".

ضبط الوضع الأمني

كثيراً ما كان يُقارَن الوضع الأمني في محافظة إدلب التي تديرها "حكومة الإنقاذ" بوزارتها الداخلية وإدارة الأمن العام الذي ألحقته إليها، بالحالة الأمنية في مناطق شمال حلب، حيث السيطرة لفصائل "الجيش الوطني" المدعومة من تركيا. ويقول فيصل عوض، وهو تاجر في منطقة سرمدا لـ"العربي الجديد": "عندما كنت أذهب إلى منطقة شمال حلب في أعمالي التجارية، وبلقائي الأهالي هناك، لا يكاد يخلو حديث من حالة سطو أو اعتداء، وكذلك انتشار المخدرات، وكل هذا غير موجود في محافظة إدلب بهذه الكثافة، ولذا فأنا التاجر لم أكن مستعداً لنقل تجارتي إلى هناك بشكل من الأشكال باستثناء الزيارات التجارية المهمة والقصيرة".

ووفق مراقبين، فإن عملية ضبط الحدود والمعابر كانت عالية، غير أن الحصول على الحد الأدنى من الاستقرار الأمني ترافق في كثير من الأحيان مع انتهاكات من جهاز الأمن نفسه الذي أُثيرت قصص حول امتلاكه لسجون خارجة عن هيكلية الحكومة وإدارتها، وحصول حوادث تعذيب وتصفية وأحكام إعدام غير معلنة تجاوزت الألف حكم بحسب قائد عسكري كان يتبع "تحرير الشام" التي لها علاقة بالحكومة، وقيام قوى الأمن بعمليات مداهمة للبيوت وظهور ما يسمى بـ"قضية العمالة"، بالإضافة إلى التداخلات الحكومية والعسكرية التي بدأت بالظهور مطلع 2024، ما أدى إلى ظهور أزمات ومواجهات مع الأهالي.

وشهدت المنطقة في مارس/آذار مطلع هذا العام موجات احتجاج غاضبة تطالب بتخفيض الضرائب وإلغاء الاحتكار وتبييض السجون، ولحقتها احتجاجات لمعلمين وطلاب وأخرى لعاملين في القطاع الصحي. وشارك في احتجاجات منفصلة عمّال نظافة وحتى سائقو الحافلات، ما دفع "هيئة تحرير الشام" إلى إصدار العديد من القرارات، كتخفيض الضرائب، وإعادة النظر في السياسة الاقتصادية، وإصلاحات في النظام القضائي، وإلحاق جهاز الأمن بوزارة الداخلية، وتفعيل دور المجالس المحلية والنقابات، قبل أن يلغى تخفيض الضرائب المفروضة على الكهرباء مجدداً، وتُعلّق الإصلاحات دون إعلان ذلك، وتبدأ معركة "ردع العدوان" التي أدت في النهاية إلى سقوط الأسد وانتقال حكومة إدلب التي يرأسها محمد البشير إلى دمشق.