العدد 1647 /15-1-2025

انضم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يغادر البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني الحالي، إلى اللائحة القصيرة من الرؤساء الأميركيين، الذين أمضوا ولاية واحدة في الحكم، معظمهم إثر إخفاقٍ كبير، بملف واحد أو أكثر، طبع عهدهم رغم العديد من الإنجازات. وبالنسبة إلى بايدن، الذي يشبه عهده بحسب أحد الكتّاب الأميركيين، وهو جون بينيت في موقع "رول كول" المتخصص في الانتخابات الأميركية والتشريع في واشنطن، "طبقاً للطعام فيه من كلّ شيء"، في إشارة إلى خليط من النجاحات والخسارات، فقد يكون الإخفاق الكبير لبايدن، الذي يصفه بعض الأميركيين بالرئيس العتيق، أو الـvintage، هو وصوله إلى السلطة متأخراً جداً، بعد حوالي خمسة عقود من العمل السياسي، ما أفقده جاذبية وحيوية بعض أسلافه سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، لاسيما باراك أوباما، الرئيس الذي عمل بايدن نائباً له، وظلّ مُقارناً به طوال ولايته الوحيدة. كِبر السنّ، معطوفاً على شخصيته العنيدة والتقليدية ومدرسة في السياسة تمجّد التفوق الأميركي، كلّها أمور، جعلت جو بايدن ينحدر في استطلاعات الرأي، وصولاً إلى أدناها أخيراً مع مغادرته السلطة بحدود 37% وفق "غالوب". غير ذلك، فإن هناك إجماعاً على أن إرث بايدن في السياستين الداخلية والخارجية، يبقى مختلطاً، وأمراً نسبياً من حيث الفشل أو النجاح، خصوصاً مع فشله في إزاحة منافسه دونالد ترامب من المشهد، الذي ظلّ مهيمناً على ولاية بايدن. على الصعيد الخارجي، فإضافة إلى ما طبع عهده من "إبادة القرن" في غزة، فإن أكثر ما يصحّ عن هذه الولاية، ما كتبه معهد ستيمسون للأبحاث، حيث رأى الباحثان روبرت مانينغ وماثيو بوروز، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن بايدن أراد استرجاع الهيبة الأميركية التي كانت في تراجع، محققاً صورةً عن ذلك، لكنها قد تكون "مضخّمة".

جو بايدن... العجوز العنيد

وليس هناك مثال على عناد بايدن، وثقته الزائدة بالنفس، واستمرار دورانه في فلك الرؤساء الأميركيين الأكثر اعتداداً بقدراتهم وتمسكاً بآرائهم، أوضح من تأكيده مجدداً خلال الأيام الأخيرة الماضية، أنه كان سيهزم ترامب، لو بقي هو في السباق الرئاسي، ونافس سلفه في الخامس من نوفمبر الماضي، بدلاً من نائبته كامالا هاريس، التي هزمها ترامب بفارق كبير. وكانت كل التوقعات، أشارت إلى أن هزيمة الديمقراطيين كانت ستكون مضاعفة، لو ظلّ جو بايدن مرشحاً، مع بلوغه عامه الـ82. فالرئيس الـ46 للولايات المتحدة، والذي جاء إلى السلطة في 2021، بوعد "الولاية الواحدة" التي عنوانها "جسر الانتقال" من مرحلة ترامب إلى أخرى، لم يترك مجالاً للشكّ بتراجع قدراته الذهنية، مع تلعثمه المستمر، وخيانة ذاكرته للكثير من الأسماء والتفاصيل، وضعف قواه البدنية، بمشية متصلبة، وأوقات أكثر بات في عامه الأخير، يقضيها مع عائلته وفي منزله الخاص في ديلاوير، حتى أن إرهاق الحملة الانتخابية التي أوقفها في يوليو/حزيران الماضي، أثّر على المناظرة الأولى بينه وبين ترامب، والتي قطعت الشكّ باليقين لدى الديمقراطيين. وسيظّل مكتوباً على جبين بايدن، بعد أربعة أعوام في السلطة، أنه الرئيس الأميركي الذي أفقد حزبه البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، وأساء التقدير بشأن قوة خصومه السياسيين، وترامب الذي عاد بنفوذ أكبر إلى السلطة.

ويأتي كل ذلك، للمفارقة، رغم إنجازات داخلية محسوبة على بايدن، لم يتمكن من ترجمتها شعبياً وفي صناديق الاقتراع. وقد يكون بايدن، من الرؤساء القلائل، الذين يثار التعجب بشأن مدى قلّة شعبيتهم، مقارنة بالإنجازات التي حقّقوها والتي تهمّ فعلاً المواطن الأميركي. وقد يعود كلّ ذلك إلى مسألة قلّة الجاذبية والمدرسة التقليدية التي ملّ منها الأميركيون.

فعلى الصعيد الداخلي، ورث جو بايدن عن دونالد ترامب، تركة الاقتصاد ما بعد كورونا، محققاً برنامجاً لإعادة الانتعاش، كان من الأكثر نجاحاً بين الدول الغربية، ما بعد مرحلة الوباء، في وقت ساهم مشروعه للبنية التحتية، وقيمته تريليون دولار، والذي أجاد تمريره في الكونغرس مع انطلاق عهده، في فتح المجال أمام زيادة عدد الوظائف بشكل قياسي، وهو ما استمر طوال هذه الولاية. كما يُحسب لبايدن، إعادة العمل ببرنامج "أوباماكير"، ورفع عدد المستفيدين من الرعاية الميسّرة بحدود الضعف، والعودة عن العديد من قرارات وقيود ترامب السابقة، الخاصة باستشارات الإجهاض ومتطلبات العمل المفروضة على ذوي الدخل المنخفض، وقروض الطلّاب، كما سجّل عهد بايدن أكبر عدد من التعيينات القضائية.

انسحاب فوضوي وإبادة قرن

ويأخذ ذلك إرث جو بايدن إلى مجال آخر لتشريحه بين النجاحات والإخفاقات، وهو الشقّ الخارجي الذي بدأ بانطلاقة صعبة، مع انسحاب أميركي فوضوي ودموي من أفغانستان، في أغسطس/آب 2021، شكّل بداية التراجع للرئيس الديمقراطي في استطلاعات الرأي، التي حمّله فيها الأميركيون مسؤولية "أكبر انسحاب محرج للأميركيين" في التاريخ. ولم يتحمل الجمهوريون مسؤولية الانسحاب، بعدما كان ترامب قد حدّد موعده، وأنجز الاتفاق مع حركة "طالبان"، التي استعادت الحكم في مفاجأة للعالم ولإدارة بايدن، التي استبعدتها قبل أسابيع قليلة من الانسحاب، معتبرة أن الغزو الأميركي أسّس لقيادة وجيش أفغاني بإمكانه صدّ مقاتلي "الحركة" الذين حاربتهم الولايات المتحدة لعقدين.

وبحسب الرئيس الأميركي جو بايدن ، فإن الولايات المتحدة "تفوز بالمنافسة العالمية" ولن تتفوق عليها الصين اقتصادياً مثلما كان متوقعاً، في حين ضعفت روسيا وإيران بسبب الحروب دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة. وأضاف بايدن أنه "مقارنة بما كان عليه الحال قبل أربع سنوات، أصبحت أميركا أقوى، وتحالفاتنا أقوى، وخصومنا ومنافسونا أضعف. لم نخض حرباً لتحقيق هذه الأشياء".

شرق أوسط جديد

وبالفعل تمكنت الولايات المتحدة، من استعادة هيبتها الدولية، خصوصاً عبر وكيلتها في الشرق الأوسط، إسرائيل، التي قد تكون حسمت النجاحات الآنية لصالحها، التي تمخضت عن حرب جديدة في المنطقة، أضعفت كثيراً المحور الإيراني وحلفاءه في لبنان وسورية، ووجّهت ضربة إلى حركة حماس في غزة، وأحلّت نكبة بالقطاع، فضلاً عن عمل حكومة الاحتلال المنهجي لإنهاء القضية الفلسطينية، ومحاولة فرض "شرق أوسط" جديد بالتفوق العسكري الإسرائيلي، ما ساهم أيضاً في إنهاء النفوذ الإيراني والروسي في سورية، وقطع الطريق على التغلغل الصيني. وبينما لم يتمكن جو بايدن من استكمال مشروع سلفه للتطبيع، إلا أن سلسلة الضربات التي مني بها خصوم إسرائيل في المنطقة، قد تعيد الحرارة لجهود التطبيع بصفقة في غزة، تقترب من الإنجاز، وبوساطة أميركية يخشى عبرها من فرض حلول غير عادلة على الفلسطينيين، الذين تشنّ عليهم حرب أيضاً في الضفة الغربية التي تواجه خطر الضمّ.

وتمكنت الولايات المتحدة، في عهد بايدن، من استعادة "هيبتها" في المنطقة، بمزيجٍ من الدعم العسكري غير المسبوق لإسرائيل التي استخدمت أسلحة وقنابل غير متكافئة القوة في عدوانها على غزة، والعمل الاستخباري الدؤوب، والتفوق التكنولوجي والاستخباري للطرفين الأميركي والإسرائيلي، كما أن العراق واليمن، أصبحا في دائرة المستهدفين أميركياً، مع مغادرة بايدن للسلطة، وهو ما سيرثه عنه ترامب، ممثلة بإحدى التركات الواجب حلّها، لتعزيز عودة المنطقة للكنف الأميركي، فضلاً عن تشديد العقوبات على إيران، وربما توجيه ضربة عسكرية لها، عبر إسرائيل.

ولا يختلف كثيراً الوضع في أوكرانيا عن الشرق الأوسط، إذ إن الدعم العسكري المفتوح الذي قدّمته واشنطن لكييف، لم يتمكن من حسم الحرب لصالحها، فيما يجادل بايدن بأنه ساهم في إضعاف روسيا، واستنزاف جيشها، وتراجعها الاقتصادي، لكن الدعم الأميركي فشل حتى الآن في حسم الحرب لصالح الحلفاء وحلف شمال الأطلسي "ناتو"، وإن ظلّ تحت سقف تحوله إلى صراع نووي بين روسيا والولايات المتحدة.

وفشل بايدن، في عهده، بإرساء حوار فعّال مع الصين، أو تطبيق سياسة أوباما "الاستدارة شرقاً"، عبر المزيد من الانسحابات من مناطق أخرى في آسيا وأميركا، وهو ما تتطلبه أي استدارة نحو الصين، المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، والتي تملك أيضاً ثاني أقوى جيش في العالم، وسلاحاً نووياً، وترسانة عسكرية بحرية، تعدّ من الأعلى تكلفة والأكثر تقدماً في العالم أيضاً. وبرأي متابعين، فإنه لا يمكن مواجهة التحدي الصيني، من دون إرساء حوار جدّي مع بكين، كما لا يمكن أيضاً مواجهة التحديات المناخية والاقتصادية في العالم، دون هذا الحوار.

ولكن رغم الإنجازات، رأى المؤرخ والباحث الكبير في معهد كارنيغي، ستيفن ويرثهيم، في حديث لقناة "سي بي أس"، أمس الثلاثاء، أن "الولايات المتحدة هي اليوم في موقع جيوسياسي أسوأ مما كانت عليه قبل أربعة أعوام، إذ إنها "غارقة في حرب كبيرة في القارة الأوروبية تملك مخاطر كبيرة للتصعيد، وهي تعود لتوجيه الضربات في الشرق الأوسط، وقد دخلت في منافسة استراتيجية واسعة النطاق مع الصين، وهي لا يمكن لها أن تجعل الصين أولويتها فيما تبقى القوة العسكرية القيادية الأولى في أوروبا والشرق الأوسط، إذا كانت فعلاً تريد جعل الصين أولويتها، عليها أن تنسحب من مناطق أخرى".