بسام ناصر

وجدت معظم الحركات الإسلامية السياسية نفسها بعد الربيع العربي في مواجهة شرسة مع قوى «الثورة المضادة»، بعد أن باتت مستهدفة بشكل مباشر من مؤسسات وأذرع الدولة العميقة هنا وهناك، وأضحى ذلك الاستهداف يشكل خطراً حقيقياً على وجودها.
ماذا بوسع تلك الحركات أن تفعل بعد أن باتت مهددة في وجودها؟ هل تبقى ثابتة على رؤاها ومبادئها، متحملة في سبيل ذلك كل ما يقع عليها من ملاحقة ومطاردة واعتقال وتعذيب، ومحاربة لأتباعها وأنصارها في أرزاقهم وتضييق سبل العيش عليهم؟ أم يحسن بها التعامل مع الظروف الخانقة بمرونة عالية، وفق موازنات معقولة بين المبادئ والمصالح؟
لا يخفى على كل من له دراية بالعقليات الموجهة لتلك الحركات، أن ثمة اختلافاً في كيفية التعاطي مع التحديات الكبيرة، فالتيار الأول يصرّ على ضرورة الثبات على المبادئ والأفكار المؤسسة، مهما كانت تبعات ذلك، وعدم الالتفات إلى مستحدثات الفكر والسياسة، لا سيما إن كانت من جنس ما يوصف في أوساط إسلامية بالخروج عن ثوابت تلك الحركات، والابتعاد عن أصولها المؤسسة.
أما التيار الثاني فيرى أن إمكانية التكيف الذكي مع الأوضاع الخانقة، وتقبل العروض السياسية برؤاها وأفكارها الوافدة، أمر وارد ويخضع للدراسة، لأنهم يرون أنهم حركات إسلامية تمارس السياسة، التي لا يمكن ممارستها بالصرامة الأيدلوجية والعقائدية، بمعنى جنوحها إلى سلوك سبل السياسة الواقعية بما لا يتعارض مع ثوابت الشريعة القطعية.
أتباع التيار الأول يذهبون في مواجهة التحديات، بكل ما تحمله من مخاطر وجودية إلى نهاية المطاف، ويرون أن هذا هو قدَر الدعوات الدينية، فما يقع لهم وقع للأنبياء والرسل من قبلهم، وما عليهم إلا الثبات على جمر مبادئهم، والتمسك بأصول دعوتهم، والصبر على ما يصيبهم من بلاء ومحن وشدائد، وإن ذهبت نفوسهم فداء ذلك.
يجتهد أتباع التيار الثاني في إخراج رؤاهم المتوافقة مع ضرورات الواقع، والخاضعة لإكراهاته، في ثوب شرعي مقبول، وتكييف فقهي سائغ، فهم في حكم المستضعف الذي لا يملك أدوات المواجهة، ولا يقدر عليها، فلماذا يُقحم نفسه نتيجة تشدده في مواجهات محسومة النتائج، وهي بالتأكيد لن تكون لصالحه أبداً، ولماذا لا يختار سبيل الواقعية، ويكيّف خياراته ومسالكه الدعوية والحركية بناء على ما هو متاح، وليس على ما يتمناه ويحلم به؟.
ولأن الأنظمة تتفاوت في مستوى مواجهتها لتلك الحركات، وتتباين في طبيعة تعاملها معها، فإن بعض الحركات التي لم يمسها السوء، ولم تتعرض لحملات شرسة من التضييق والملاحقة والمطاردة والاعتقالات والتعذيب الوحشي، تجد نفسها وهي تستحضر ما وقع لأخواتها في دول أخرى، مضطرة لتخفيف صرامة العقائدية في رؤاها ومواقفها السياسية، للمحافظة على وجودها من جهة، ودفعاً لتكرار سيناريو الإقصاء الشامل من جهة أخرى.
لكن تلك الحركات لا تصدر عن منهجية واحدة في الإصلاح والتغيير، فكثيرون من أتباع التيارات الإسلامية المتشددة المنتشرة في أوساط تلك الحركات، يصرون على أن مشروعهم هو حاكمية الشريعة وتطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ولا يقبلون بأي بديل عنه، لأنهم يعتبرون الأنظمة القائمة أنظمة جاهلية، لا تحكم بما أنزل الله، ولا سبيل للتوافق معها في أي مشروع تطرحه أو تدعو إليه.
هما رؤيتان تسيران بخطين متوازيين في أوساط تلك الحركات، رؤية الثبات على مشروع تطبيق الشريعة وفق مبدأ الحاكمية، ورؤية أخرى خففت من صرامة العقائدية، وباتت تُنظر لحكم مدني، يقوم على سيادة القانون، ودولة المواطنة وليست الدولة العقائدية الدينية، ونظام حكم التعددية.
فهل ستتمكن رؤية الواقعية السياسية (الإسلامية) من حسم الأمور لصالح فكرتها، لتقوى على مغالبة الحصار المفروض على الحركات الإسلامية كلها، ولتعيد ترتيب أوراقها وأفكارها بما يتناسب مع معطيات الواقع الجديدة؟ «إن غداً لناظره لقريب».