العدد 1391 / 18-12-2019

تتعاقبُ الأعوام وتتوالَى الشهور، والأعمار تُطوَى، والآجالُ تُقضَى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمَّى؛ ما أسرعَ تصرمَ الأيام، وانقضاءَ الشهور والأعوام، كيف مضى عام بهذه السرعة؟ كنا بالأمس في أول العام، ونحن اليوم في منتهاه!! ذهبت بركةُ الأوقاتِ فلم نشعر بتصرِّمها، وانقضائها، وإنا لنا مع ذلك لوقفات:

الوقفة الأولى: نعمة وعبرة :

في تعاقب الليل والنهار ودوران الزمن نعمةُُ وعبرة فأما النعمة فجاء ذكرها في قوله تعالى { اللهُ الذي جعل لكم الليلَ لتسكنوا فيه والنهارَ مبصراً إنَّ الله لذو فضلٍ على الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون } غافر – 61.

وأما العبرة فجاء ذكرها في قوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } ال عمران 190-191 جعل في تعاقب الأيام والليالي والشهور والأعوم عبرةً وآية، وثنَّى بذكر ذلك في القرآن آيةً بعد آية، فقال سبحانه في سورة آل عمران ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهارلآيات لأولي الألباب) وفي سورة يونس: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون) وفي سياق الآيات الكونية في سورة النور، يقول عز وجل ( يقلب ال له الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) كلُّ هذا يدل ويؤكد على أصول مهمة وقواعد إيمانية عقدية راسخة وجليلة، وأهمها أمران:

أولهما: الاعترافُ واليقين بوحدانيته سبحانه في أفعاله المستلزمة والمحقِّقةِ لواحدانيته سبحانه في إلاهيّته وعبوديته وحده دونما شريكٍ له سبحانه .

ثانيهما: لنتذكر أن الله جعل الإنسان؛ آدم وذريته في الأرض خلفاء ليعمر دنياهم بالتوحيد، فيكون في انقضاءِ الزمان بلياليه وأيامِه وأعوامه، انقضاءُ أعمارهم وتحولُهم إلى دار الجزاء والثواب.

الوقفة الثانية: حقارة الدنيا وترك الأمل:

في انصرامِ عامٍ وحلول آخَر موعِظةٌ وتذكير بأنَّ هذه الدنيَا لا تبقى على حالٍ، أمانيها كاذِبة، آمالها باطِلة، عيشُها نكَد، صَفوُها كدَر، المرء فيها على خطَر؛ إمّا نِعمةٌ زائلة، وإمّا بليّة نازلة، نعيمُها ابتلاء، جديدُها يَبلى، مُلكها يَفنى، أيّامُها معدودة، آجالها مكتوبَة، هي بمثابةِ ظلٍّ زائل أو سَرابٍ راحل، هي كأحلامِ نائِم ، والله المستعان وعليه التّكلان ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45] .روى مسلم عن النبيِّ يصِف الدنيا بقوله: ((إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن اللهَ مستخلِفُكم فيها فينظُر كيف تَعملون، صلى الله عليه وسلم الناس اليوم تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، اشرأبت نفوسهم إلى حبَّ الدنيا والركونَ إليها، فتاقت لها قلوُبهم وهوت إليها أفئدتُهم فأصبحت محطَّ أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة .

فقد قال تعالى مخاطباً نبيه ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وقال تعالى في ذم اليهود (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل"رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبُّ المال، وطولُ العمر"رواه البخاري ومسلم.لذا كان طولُ الأمل سبباً في هلاك كثير من الأمم الغابرة ، و في هذه الأيام، كثرالأمل وكبرت الأماني ، وقل الزهد الذي كان سبباً في صلاح ذلك الجيل الطاهر من أول هذه الأمة رضي الله عنهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاحُ أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرُها بالبخل والأمل "رواه أحمد .

نهايةُ العام تذكرنا بنهاية الدنيا التي كتب الله عليها الفناء قال ابن عمر – رضي الله عنهما – خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس على أطراف السعف فقال"ما بقي من الدنيا إلا كما بقي من يومنا فيما مضى فيه "رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الترمذي.

قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا..فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل) أخرجه البخاري.

فطوبى لمن لم تَشغِله هذه الدّنيا عن الاستعدادِ للدّار الباقِيَة، وهينئًا لمن لم يغترَّ ببريقِ هذه الدّنيا وسرابها وزينَتِها وزخارِفها عن الاستعداد ليومِ الرّحيل، والفوزُ والفلاح إنما هو لمن جعَل هذه الدنيا مَعبَرًا للدّار الآخرة وميدانًا للتّنافُس في الصالحات الباقيَة.