العدد 1382 / 16-10-2019

القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل إلى خلقه ، وحجته على عباده ، لذلك من أراد اليقين بالله فليسمع كلامه ، وليتدبر آياته. إن آيات القرآن الكريم كلها ناطقة بأنها كلام الله الحكيم الحميد (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت 42.

إن من يقرأ القرآن بتدبر ، ويفتح له قلبه وعقله يشعر وكأن الله يكلمه ، ويتحدث إليه ، يبصره بطريقه ، ويهديه إلى سبيله ، هناك في القرآن روح عجيبة ، روح تسري إلى القلب فيتملكه العجب من روعته ، وتشع في النفس فيأسرها ببلاغته؛ لذلك كان يأسر قلوب الكافرين به ، المعاندين له. فهاهم كفار مكة عندما يسمعون القرآن لا يلبثون إلا أن يقروا بعظمته ، ويذعنوا لفصاحته فيصفونه بكل جميل ، وينعتونه بكل حسن مع إجلال له وإكبار فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا عَمِّ ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالا ، قَالَ : لِمَ ؟ قَالَ : لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ ، قَالَ : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالا ، قَالَ : فَقُلْ فِيهِ قَوْلا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ ، قَالَ : وَمَاذَا أَقُولُ ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي ، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا .

وها هو عتبة بن ربيعة عندما جاء يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم مطالب قومه, تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم الآيات من أول سورة فصلت حتى انتهى إلى قوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) [ فصلت 37 ] ، فسجد ، ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم ومع ذلك ما منعهم من الإيمان به إلا جحود قلوبهم ، وضلالة عقولهم.

وها هو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ما كان سبب إيمانه إلا تلألؤ أنواره في قلبه ، وسريان روحه إلى نفسه فجعلت منه خلقا آخر ، وحولته من أكبر المعاندين له إلى أكبر المؤمنين به ، وذلك عندما قرأ أوائل سورة طه من صحيفة كانت عند أخته ، وكانت قد أسلمت قبله فذهب ليعنفها فوجد عندها الصحيفة فلما قرأ أوائل سورة طه ، سلب القرآن لبه ، واستولى على نفسه ، وسرت روحه في كيانه ، فما فارق بيت أخته إلا وقد أعلن إسلامه ، وهذا بسبب الروحانية العجيبة في القرآن الكريم ، والتى هى من أكبر الدلائل على إعجازه ، وأنه من عند الله العلى الحكيم.

ولا يقتصر إعجاز القرآن على أثره البالغ في النفوس ، بل إنه يمتد إلى ما هو أكثر من ذلك ، فالقرآن الكريم فيه جواب لكل سؤال ، وحل لكل معضلة ، وهدي لكل سالك ، وراحة لكل قلق ، وسكينة لكل خائف ، فيه المواعظ والقصص ، فيه التشريع والأحكام ، فيه بيان حقيقة الكون والإنسان ولماذا خلق وما الهدف من خلقه وإلى أين يسير ، فيه الجدل والحجاج ، فيه الحجة والمنطق ، فيه كل ما يحتاجه الإنسان في أمر دينه وتطهير نفسه وقلبه وتنظيم شئون حياته ، وصدق الله إذ يقول (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) الأنعام 38 ، فهل يعقل بعد هذا كله أن يكون القرآن الكريم صنعة بشر كلا وألف كلا ، إنه لا يقدر على ذلك إلا رب عليم حكيم ، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثله ، أو ينسجوا على منواله ، وصدق الله إذ يقول (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء 88.

لذلك من أراد تطهير قلبه من الشكوك ، وتنقية نفسه من الأوهام ، وتنحية عقله عن الشبهات ، وتقوية اليقين في قلبه فعليه بمعايشة القرآن الكريم ، وتدبر آياته ، وقراءته آناء الليل وأطراف النهار0

وفي هذا يقول محمد رشيد رضا: " واعلم أن قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه، مع التدبر بنية الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوى وينمى وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة، وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره، وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه وفهمه، ولا فتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم، وعظم سلطانهم، إلا بتأثير هدايته، وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ويصدونه عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس".