حمزة منصور

 لم يعدُ الخليفة الرّاشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جعل الله الحق على لسانه الحقيقة حين اختار الهجرة النّبويّة بداية للتاريخ الإسلاميّ، كمظهر للتّميّز والاستقلال للأمّة.
فقد استعرض أحداثاً عظيمة شهدتها الأمّة، بدءاً من نزول الوحي بكلمة اقرأ على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومروراً بغزوات بدر والخندق وحنين، والفتح الأعظم. فلم يجد بينها حدثاً أعظم أثراً في الحياة البشريّة من الهجرة من مكّة إلى المدينة. وقد وافقه الرّأي والرّؤية باب مدينة العلم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، حيث قال: (الهجرة فرّقت بين الحقّ والباطل فأرّخوا بها). والهجرة لم تكن إفلاتاً ونجاة من مؤامرة قريش، الّتي استهدفت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا توفير بيئة آمنة للمستضعفين من سطوة كبراء مكّة، ولكنّها كانت تحوّلاً ضخماً بين مرحلتي الاستضعاف والاستخلاف، والدّعوة والدّولة، فكونت للعرب أوّل دولة حقيقيّة في تاريخهم، بعد أن ظلّ يتنازعهم الرّوم والفرس والأحباش السّنين الطّوال.
وكما كانت الغاية عظيمة، فقد كان الإعداد لها عظيماً كذلك، فقد حدّد لهم النّبيّ القائد  الوجهة حين قال:(أُريت دار هجرتكم في سبخة ذات نخل بين لابتين)، فخفّوا سراعاً لا يلوون على شيء، إلا من استبقاه رسول الله | لدور هام، كما هو حال أبي بكر وعليّ رضى الله عنهما، فلأبي بكر الصّحبة، ولأبي الحسن أداء الأمانة، فما كان الرّسول وهو الصّادق الأمين ليضيّع حقوق العباد، وقد استأمنوه عليها، مهما أبدوا له من العداوة. فسارع الصّحابة الكرام إلى يثرب، الّتي غدت بهذه الهجرة «المدينة المنوّرة»، ليكوّنوا مع الّذين تبوّأوا الدّار والإيمان من قبلهم نواة الدّولة الإسلاميّة.
ولمّا كان القائد بما حباه الله من خصائص، وفي مقدّمتها النّبوّة، فإنّ الحرص على حياته أمر في غاية الأهميّة، حتّى يحقق الله على يديه ما قدّر من خير للإنسانيّة جمعاء. ومن هنا فقد أخذ بكلّ أسباب النّجاح، مع اعتقاده أنّ الأمر كلّه لله، ليعلّم الأجيال من بعده أنّ الأخذ بالأسباب واجب شرعيّ واجب النّفاذ، استجابة لأمر العليم الخبير القائل: >وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة<، وصدق الشّاعر إذ يقول:
ترجو النّجاة ولم تسلك مسالكها
إنّ السّفينة لا تجري على اليبس
فقد اختار عليه الصّلاة والسّلام الرّفيق الرّفيق، الّذي جنّد أهله وماله لخدمة المشروع، كما اختار التّوقيت المناسب، فعاملُ الوقتِ في غاية الأهميّة، وحدّد الوجهة المناسبة، ليتجنب الطلّب، وضمنَ تدفّق المعلومات، أو ما يسمّى اليوم بالاستخبارات العسكريّة، وحافظ على خطوط التّموين، وقبل ذلك وبعده التّوجّه الصّادق إلى الله، والاستمداد منه، بعبارات تفيض رقّة ونداوة ألقى بها الوحي إليه >ربّ أدخلني مُدخَل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً <.
وما إن بلغ مُهاجرَه، حتّى راح يرسي دعائم الدّولة على ثلاث ركائز: أوّلها بناء المسجد، الّذي يحكم الصّلة بالله، ويربط المخلوق بالخالق. وثانيها تعزيز الأخوّة بين المهاجرين والأنصار، على قاعدة >لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفتَ بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم<، تلك الأخوّة الّتي تجاوزت الحبّ والمساواة إلى الإيثار، وتلك لعمرو الحقّ حالة لا يكاد يبلغها الخيال. وثالثها تنظيم العلاقة مع غير المسلمين، وفق وثيقة تعتبر أوّل وثيقة دستوريّة مكتوبة في التّاريخ، لتقوم على هذه الرّكائز أعظم حضارة وأبعدها أثراً، ينتسب إليها اليوم مليار وستمئة مليون مسلم.
فهل يعي المحتفون بالمناسبة اليوم، الّذين لم يفهموا من المناسبة إلّا تعطيل المؤسّسات الرّسميّة، وتدبيج الخطب الّتي لا يصدقها الواقع، مسؤوليتهم إزاء المناسبة، وقائدها، والمشاركين فيها، ويدركون أن لا مكان لهم تحت الشّمس إلا بترسيخ عقيدة الإسلام في قلوبهم، وترجمتها سلوكاً وواقعاً معيشاً، فيعيدون للمساجد رسالتها، ويعهدون بالقيام عليها لمن يعون رسالتها، ويعزّزون الوحدة على قواعد الإيمان، ويقدّمون للمسؤوليّة القويّ الأمين، ويحقّقون الاستقلال والتّميّز في حياتهم، ويقيمون علاقاتهم مع الآخر على قواعد الحقّ والعدل؟
عندها، وعندها فقط تستعيد الأمّة مركزها الحضاريّ، وتحقق الكفاية والعدل والتّنمية المستدامة. وبغير ذلك فستبقى تلهث وراء سراب، يحسبه الظمآن ماء.
وصلاة ربي وسلامه على صاحب الذّكرى، ورضوان الله تعالى على شركائه في هذه الرحلة الخالدة، ومن تبعهم بإحسان.