العدد 1428 / 16-9-2020

لما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، فقد أصبحت هي لغة الحضارة الإسلامية، ومن ثَمّ حظيت باهتمام كبير من قبل العثمانيين رغم أنها ليست لغتهم الأصلية.

لقد كان تأثر الدولة العثمانية باللغة العربية واضحا، ليس في المصطلحات الخاصة بالدين من عقائد وعبادات ومعاملات فحسب، وإنما تعدى هذا التأثر إلى كثير من المصطلحات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

في الدراسة التي كُلّف بها الدكتور سهيل صابان من قِبل جامعة الإمام محمد بن سعود بعنوان "معجم الألفاظ العربية في اللغة التركية"، ذكر المؤلف عددا لا حصر له من الألفاظ المشتركة بين اللغتين: العربية والتركية.

بدأ اهتمام العثمانيين باللغة العربية منذ عهد المؤسس الأول عثمان بن أرطغرل، وقد أثْرَت تربيته على القرآن الكريم اهتمامه باللغة العربية، وبدأت الترجمة الحقيقية لاهتمام العثمانيين بالعربية في عهد أورخان بن عثمان، والذي أخرج التعليم من حيز المسجد إلى المدرسة.

وأنشأ أورخان مدرسة إزمير، وفيها تم إقرار التدريس لعدد كبير من كتب التراث بالعربية، إضافة لكتب تدريس النحو والصرف، كألفية ابن مالك، والعوامل للجرجاني، وقطر الندى لابن هشام، وأساس التصريف للفناري، ومرح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود، وغيرها من كتب اللغة العربية.

احتلت الأسماء العثمانية مكانة كبيرة مشهود لها في مجالات الثقافة الإسلامية المكتوبة باللغة العربية، ومن أبرز هؤلاء العثمانيين الذين بلغت شهرتهم الآفاق "كاتب جلبي"، الذي اشتهر باسم "حاجي خليفة"، صاحب الكتاب الشهير "كشف الظنون"، والذي يعد من الكتب الببليوغرافية ذات المكانة في الدراسات الإسلامية والعربية.

والببليوغرافيا هي علم يشبه إعداد سجل علمي للإنتاج الفكري المكتوب سواء كان مخطوطا أو مطبوعا.

يقول المؤرخ محمد حرب عن هذا الكتاب "اجتمع فيه من أسماء الكتب 14500 كتاب ومن المؤلفين 9500 مؤلف، وتناول فيه نحوا من 300 فن أو علم، وحوى عيون المصادر في الفكر الإسلامي مما صنفه أصحابه باللغة العربية".

ومما يدل على عظم أثر اللغة العربية لدى الكُتاب العثمانيين، كتاب "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية"، والكتاب رغم شهرته، إلا أن الكثيرين يعتقدون أن مؤلفه عربي.

لكن الحقيقة صاحب الكتاب هو عصام الدين طاشكبري زاده (1495- 1561م)، المؤرخ ذو الأصول التركية، وألف الكتاب باللغة العربية، وتُرجم في عهده والعهود التي تلته إلى اللغة التركية.

ويقول محقق الكتاب الدكتور أحمد صبحي فرات عن محتواه: "وهذا ما يظهر لنا قوة نمو وتطور العلوم الإسلامية باللغة العربية على الساحة العثمانية من القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر الميلادي".

في عصر السلطان سليم الأول كان للعثمانيين اهتمامات قوية باللغة العربية، ومن دلائلها شخصية موسوعية عُرفت ببذل الجهود الضخمة في مجال اللغة العربية رغم أنه من الأتراك، وهو ابن كمال باشا، حتى أن الدكتور ناصر سعد الرشيد المدير السابق لمركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة الملك عبد العزيز، صنف دراسة عن جهود ابن كمال اللغوية.

كما ذكر الدكتور حرب أن هناك علامة بارزة على اهتمام العثمانيين باللغة العربية، وهي أن كل أمير وسلطان عثماني كان يجيد اللغة العربية، تعلم ودرس بها، واتخذها وسيلة لتعلم الدراسات الإسلامية المنصوص عليها في نظام تربية الأمراء في القصر العثماني.

ومع أن السلاجقة أتراك، إلا أنهم اتخذوا من الفارسية لغة رسمية لدولتهم، بينما العثمانيون لم يستخدموا اللغة التركية رسميا إلا في الدوائر الإدارية والأوساط الحكومية، في حين لم يدرسوها للشعوب العربية ولم يجبروهم عليها.

فاللغة التي كانت سائدة لدى العثمانيين والمسيطرة في المدارس والجامعات هي العربية، ولم تتنح اللغة العربية عن مكانتها الأولى في التعليم التركي إلا في الربع الأول من القرن العشرين.

وفي كتابه "الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات"، يقدر المؤرخ والمفكر المصري أيمن فؤاد سيد عدد المخطوطات العربية في المكتبات التركية بحوالي 300 ألف مخطوط، وفي المكتبة السليمانية وحدها ما يقدر بحوالي 200 ألف مخطوط عربي، محاطة بعناية فائقة.

ومما له دلالته في اهتمام العثمانيين باللغة العربية، أن أسماء سلاطينهم كانت معظمها عربية، وأختامهم كانت باللغة العربية، وحتى أسماء السفن العثمانية كانت تحمل أسماء عربية مثل محمودية ومجيدية وسليمية، ونسبة المفردات العربية في اللسان العثماني تربو على 40% من مجموع مفردات اللغة التركية.

إن هذه النبذة المختصرة عن اهتمام العثمانيين باللغة العربية، تقودنا إلى حقيقة أنهم لم ينغلقوا في دائرة القومية التركية، وأنهم نظروا لأنفسهم على أنهم حملة الإسلام وقادة العالم الإسلامي، وأن فكرتهم المركزية لم تكن سوى الإسلام.