الشيخ محمد حمود
نقف مع علَم من أعلام هذه الأمة ينبغي أن نجعله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، حتى يكون حديث شيوخها في المنتديات وقصصاً لأطفالها الذين شغلوا بالقصص الهابطة والرسوم المتحركة، وحديثاً لشبابها الذين شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملأوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من جعل كبير المسلمين له أباً، وأوسطهم له أخاً، وأصغرهم له ابناً، فوقر أباه وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القيم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل والأخلاق رجالاً وواقعاً ملموساً.
إنه عمر بن عبد العزيز، بن مروان بن الحكم من بني أمية، وهم قسم من قريش. أمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ولد بالمدينة المنورة سنة 61 هـ، ورحل مع بني أميّة إلى الشام بعد وفاة يزيد بن معاوية.
تولى الخلافة عام 99هـ. فحمل همّ الأمة، وخلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يأخذ قليلاً ولا كثيراً، همّه الآخرة وليس الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حتى مع الناس. وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرّع ويقول: «لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، إن السابق من غفر له في هذا اليوم».
كان شديد الخوف والمراقبة لله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بالك يا عمر ؟ فيقول: تذكرت قول الله: >فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعير<ِ الشورى:7، فخفت خوفاً أورثني ما ترين.
أدنى الصالحين والعبّاد فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوفوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أمة محمد | فأعينوني.
كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال منه رجل يوماً، فقيل له: ردّ على هذا السفيه يا عمر ، فقال: إن التقي ملجم.
كان متواضعاً لله، مدحه رجل في وجهه، فقال: يا هذا، أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
كان شديد الخوف من الله، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. كان يذكر الله في فراشه كما تقول زوجه، ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل حتى أقول - يعني زوجه-: ليصبحنّ الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعد المشرقين، والله ما رأينا من سرور منذ تولى عمر الخلافة.
توفي عام 101هـ، وقد دام حكمه عامين وخمسة أشهر فقط، قام خلالها بأعمال جليلة تحتاج إلى عقود كثيرة، فنشر العدل وردّ المظالم، ونشر الأمن وأصلح الأراضي الزراعية، وحفر الآبار، وعمّر الطُرُق، وأعدّ الخانات لأبناء السبيل، وأقام المساجد دون زخرفة أو تكلف، وعزل الولاة الظالمين وأبدلهم بالصالحين، ورفـع رواتب العمال والولاة ليغنيهم عن الخيانة، فسادَ الغنى والسعة، ولم يعد أحد يأخذ الزكاة المفروضة فأعتق بها عبيداً، واشترى دوراً لمن ليس له دار، وزوّج من كان بحاجة للزواج من المسلمين. ومن الناحية السياسية ناظر الخوارج، فلم يحاربوه، وكانوا يقومون على كل خليفة قبله، وأخمد الفتن.
أما الفتوحات فقد اتسعت في عهده، ولكن عهده كان قصيراً، فلم يتمكن من إتمامها، ونشر الإسلام أكثر مما فعل، وقد أبطل كثيراً من المنكرات منها سبّ علي كرم الله وجهه على المنابر. وفي عهده كانت القسطنطينية محاصرة منذ عهد مَنْ سبقه، فرأى بثاقب نظره أن الوقت غير ملائم لفتحها وجنوده معرضون للهلاك، فأمر قائده مَسلَمة أن يعود بالجيش، ويفك الحصار خوفاً على المسلمين من الهلاك. وفي عهده أغار الترك على أذربيجان فوجّه لهم جيشاً بقيادة حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل الترك وأسر منهم. كذلك غزا قوّاده بلاد الروم وفرنسا، فاخترقوا جبال البرانس ومقاطعتي سبتمانيا وبروفانس، ونشبت هناك معركة عظيمة استشهد فيها قائده ابن مالك الخولاني، وتولّى إمرة جيوش المسلمين بعده البطل العظيم عبد الرحمن الغافقي.
رضي الله عن عمر بن عبد العزيز وكل من سار على هذا الطريق.