بعد انطواء صفحة ما سمي «الربيع العربي» وظهور التيار الإسلامي فيه كأقوى مكوّن من مكوّنات الساحة الشعبية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي، تلقفت الدوائر الغربية الرسالة، ووضعت مواجهة هذا التيار في مقدمة اهتماماتها، خاصة بعد الممارسات الإرهابية التي أقدمت عليها بعض التنظيمات التي تحمل اسم الإسلام في العالمين العربي والإسلامي.
وجاء في مقدمة عمليات التصدي للتيار الإسلامي شق صفه، وتعميق جذور الانتماءات المذهبية، فبدل أن كان هناك عالم إسلامي واحد، بات لدينا عالم سنّي وآخر شيعي، خاصة بعد نجاح التجربة الإيرانية في إقامة جمهورية إسلامية تعتمد المذهب الشيعي، في دولة نفطية واقعة في عمق الخليج، العربي أو الفارسي، استطاعت انعاش الحضور الشيعي في عدد من الأقطار المجاورة. بالمقابل، لم تستطع أقطار الخليج الأخرى، من السعودية الى جاراتها العربيات، أن تقدم شيئاً في هذه المجال، فالسعودية بلد الحرمين وقبلة المسلمين، لكنها لا تحمل رسالة، بل هي تلاحق الدعاة الإسلاميين وتعتقلهم باتهامات واهية لا تشكل أي خطر على أمن البلد أو الأسرة الحاكمة فيه. وهنا استيقظ الوعي القومي لدى أنظمة الخليج، وبدأت مواجهة مفتوحة ضد إيران وكل من يمتّ إليها بصلة. كذلك إلى الامتدادات الشيعية، سواء في أقطار الخليج أو في العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها.
معروف أن لبنان بلد مركب طائفياً ومذهبياً، وكان المسيحيون فيه يتلقون دعماً غربياً عبر الفاتيكان وغيره من المؤسسات التبشيرية والانمائية. والمسلمون السنّة تتلقى معاهدهم الشرعية مساندة من الأزهر، وبعض قواهم السياسية تلقت دعماً مالياً سعودياً، لا سيما بعد بروز التيار الحريري. وبعد انتصار الجمهورية الإسلامية في إيران قدّمت دعماً مالياً وثقافياً كبيراً، تجلى في أبرز صوره بدعم حزب الله، عن طريق تدريب وتأهيل رجاله ودعم مؤسساته، واستمر هذا الدعم وتطوّر ليصبح الحزب هو الممثل الرئيسي للشيعة في لبنان، مما أتاح له الانتشار الى الأقطار العربية الأخرى، لا سيما في سوريا والعراق وبعض أقطار الخليج..
لذلك فقد بات لبنان هو الساحة الشيعية المتقدمة، وهو مركز التأهيل والتدريب، ثقافياً وسياسياً وعسكرياً، خاصة أن مناطق الجنوب، على الحدود مع فلسطين المحتلة، مما أتاح له أن يركز على مشروع المقاومة، وأن يمتلك قدرات لوجستية كبيرة، في بلد حرّ واقع على الحدود مع الكيان الصهيوني.
وعندما بدأت المواجهة بين الإدارات الأمريكية المتلاحقة ضد إيران، كان حزب الله هو الأعلى قدرة على الصمود في المواجهة. وعندما انتقلت ساحة المواجهة إلى مناطق الخليج، بين إيران وأقطار الخليج العربية، شكل حزب الله ساحة تفاعل، سياسي واستراتيجي، في مواجهة أقطار الخليج التي اعتمدتها الإدارة الأميركية، لا سيما مع بداية حكم الرئيس ترامب، فكان المؤتمر الكبير الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية في الرياض يوم 21 أيار الماضي، والذي انتهى بأن يحمل ترامب معه مشاريع تقدر قيمتها بأربعمائة وثمانين مليار دولار، في مقابل الاتفاق الأمريكي السعودي على مواجهة إيران والتصدي لمشاريعها في منطقة الخليج وفي العالم. ولا تزال هذه المواجهة قائمة، ويشكل حزب الله في لبنان أداتها الأقوى والأبرز.
كانت هذه وسيلة لمواجهة التيار الإسلامي وتفتيته مذهبياً، وزرع الفتنة في ساحته. وجاءت الوسيلة الثانية التي لا تقل عن الأولى فاعلية وأهمية. وهي تتلخص في انعاش التيارات الإسلامية المتطرفة، وتمكينها من امتلاك المال والسلاح، وأن تستفيد من تجارب الحركات الإسلامية القديمة في ميادين العمل العام. فأين كانت «النصرة» و«داعش» أيام انتعاش القوى الإسلامية، سواء في مصر أو تونس أو سوريا أو اليمن وليبيا؟ وعندما جرى قمع هذه الحركات، وإفشال هذه التجارب، جرى استيلاد المنظمات المتطرفة منذ سنة 2014 وما جاء بعدها. بدأت «داعش» من الموصل والرمادي في العراق، حيث جرى فتح أبواب السجون العراقية ليخرج منها رموز حزب البعث القدامى، من العاملين مع نظام صدام حسين، لتحملهم سيارات ذات دفع رباعي إلى الحدود السورية. هذا في العراق، أما في سوريا فقد جرى الافراج عن مئات المعتقلين السياسيين من المتطرفين، من سجن حلب المركزي، وسجن صيدنايا وغيرهما، ليذهبوا الى مدينة الرقة وينضموا الى إخوانهم العراقيين القادمين من بلدهم. وتأكيداً على تبني نموذج داعش (الأشد تطرفاً) فقد انسحبت القوات العراقية من مواقعها المتقدمة، لا سيما في مصافي النفط، لتتسلم «داعش» أنبوب نفط غزير شكل مصدراً رئيسياً لتمويل التنظيم واطلاق يده بعيداً عن أي رقابة.
نحن في لبنان شهدنا تجربة إسلامية متطرفة عام 2007 تحت عنوان «فتح الإسلام» في مخيم النهر البارد، إذ كان المسمى (شاكر العبسي) في سجن حلب المركزي، فجرى الافراج عنه ليذهب عدة أشهر الى العراق، يعود بعدها ليشرف تنظيم «القيادة العامة» على تشكيل مجموعة من عتاة المتطرفين، يقودهم (العبسي) الى لبنان، الى مخيم شاتيلا أولاً، ثم الى النهر البارد في شمال لبنان حيث عمل هناك عدة أشهر، وضع يده خلالها على مخازن سلاح «القيادة العامة» والقوى المنشقة عن حركة فتح.. ويخوض معارك مع الجيش اللبناني، أدت الى تدمير المخيم، وسقوط مئات القتلى.. لينسحب العبسي بعدها ويعود من حيث أتى الى سوريا.
ماذا بعد؟! يفاخر بعض الذين شاركوا في عمليات تصفية منظمات الثورة السورية، بأنهم قضوا على الإرهاب، خاصة بعد تحرير مدينة البوكمال بمحافظة دير الزور، وأن طائرات أمريكية كانت تحلق فوق معسكرات التنظيمات المتطرفة، ولا سيما «داعش»، وأن إحدى الطائرات انتشلت عدة مسؤولين في داعش من أرض المعركة.. قد يكون هذا صحيحاً.. لكن الصحيح والأكيد هو أن قوات حزب الله أشرفت على نقل مجموعة من مقاتلي «داعش» من «جرود القاع» قرب الحدود اللبنانية الى دير الزور، وأنهم كانوا يقدّمون لهم الطعام والماء المثلج في باصات مكيّفة، الى أن بلغوا المكان الذي يريدون.
المعركة ضد الفصائل المتطرفة لم تنته بعد، ومن يَرَ غير ذلك فهو واهم. والمقاتلون الذين تركوا سلاحهم وانتشروا في المدن والقرى قد تكون لهم عودة، بأسلوب مسلح أو غير ذلك.