العدد 1432 / 14-10-2020
الدكتور وائل نجم

قبل أيام شهدت منطقة بعلبك استعراضات عسكرية بالأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة والصاروخية أيضاً لكل من عشيرتي آل جعفر وآل شمص، وعجّت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات تظهر مئات المسلحين من كلا العشيرتين وهم يجوبون مدينة بعلبك ومحيطها بسيارات الدفع الرباعي التي كانت تحمل الأسلحة المتوسطة، فيما أجهزة الدولة اللبنانية العسكرية والأمنية كانت الغائب الأكبر والتي عجزت وتعجز دائماً عن وضع حدّ لهذا التفلّت الذي يقلق المواطنين. وتعود أسباب هذه الاستعراضات العسكرية إلى خلاف بين العشيرتين، وإلى مقتل أحد أفراد عشيرة شمص بدافع الثأر من قبل أفراد من عشيرة جعفر، وبهدف إظهار القوة بوجه الطرف الآخر ووضع حدود لبقية العشائر أو حتى للدولة ذاتها في المنطقة، وغالباً ما تحصل اشتباكات بين عشيرة آل جعفر والجيش اللبناني خاصة في حي "الشراونة" الذي تقطنه أغلبية من آل جعفر في مدينة بعلبك.

والحقيقة أنّ عودة سيادة روح العشيرة ومنطقها التدريجي يعكس في بعده الاجتماعي موقفاً سلبياً من الدولة المركزية التي فشلت في تأمين الاستقرار والتنمية من ناحية، ومكافحة الفساد المستشري من ناحية ثانية، وهو ما تتحدث عنه صراحة العشائر عندما تسوق المبرر لعملها وحملها السلاح واللجوء إلى زراعة المخدرات والسلب والتهريب والأكيد أنّ هذا ليس مبرّراً منطقياً للتخلّي عن الدولة والقانون واللجوء إلى هذه الحالة التي يمكن أن نسمّيها فوضى.

وفي البعد الاجتماعي الآخر تعكس العودة إلى العشيرة موقفاً سلبياً أيضاً من الدولة المدنية، أو حتى نكون أكثر دقّة وتوصيفاً من منظمات ودعاة الدولة المدنية والمجتمع المدني. فهؤلاء أيضاً لم يقدّموا نموذجاً مقنعاً، أو ربما لم يتمكّنوا من تقديمه، ليكون ضمانة وسبيلاً لحسن تطبيق القانون والنظام العام ضمن قواعد الحقوق والواجبات والعدالة للجميع، وهنا وجد البعض أن الملاذ الآمن الذي يحميه من منظومات الفساد والتغوّل على السلطة والمال العام هو في العودة إلى كنف العشيرة ذات العصبية الجامعة للبطون والأفخاذ. وهنا تتحوّل الأمور من منطق الدولة المركزية المستبدة أو القويّة، ومن منطق الدولة المدنية العاجزة بنفسها أو بفعل غيرها، إلى منطق العشيرة وتقاليدها القائمة على الإطاحة بالقوانين العامة لصالح قانون العشيرة وأعرافها، ومن منطق القانون والعدالة إلى منطق الحماية الذاتية والثأر، من دون أن يلغي ذلك الصفات الإيجابية الكثيرة والكبيرة التي تتمتّع بها العشائر ومن بينها الكرم والنخوة والمروءة وسواها.

إنّ أخطر ما في عجز الدولة هو في أننا سنجد أنفسنا أمام دويلات عشائرية لا تعدّ ولا تحصى، تتشابك في مصالحها، وتتداخل في علاقاتها، ويأكل القوي فيها الضعيف، ويسود فيها عرف العشيرة على أي منطق قانوني وعلى أية عدالة حقيقية، وتجد كل واحدة منها أنّها بحاجة إلى حماية ورعاية من غيرها أو من الخارج.

ربما يحاول البعض من خلال تصدير (الصدارة) العشيرة مشروعاً للإطاحة بقوى سياسية أو حزيبة أو طائفية استعصت من ناحية، واستحوذت على مقاليد الأمور من خلفية ومنطق حزبي أو طائفي من ناحية ثانية، وقد يكون ذلك حقيقياً لإضعاف تلك القوى الحزبية والسياسية الطائفية؛ وقد يكون العكس صحيحاً بحيث أنّ تلك القوى السياسية والحزبية تستثمر في العشيرة من أجل توجيه الرسائل المطلوبة في بعض الأحيان، ولكن في مطلق الأحوال تظلّ الدولة ويظلّ الناس هم الضحية الأساسية المستنزفة فيما الآخرون يعيشون على حسابها حتى لو كان ثمن ذلك سقوط الهيكل بالكامل.