العدد 1412 / 6-5-2020

يتذكّر السودانيون دبلوماسياً مرموقاً، عمل في الأمم المتحدة في إدارتها القانونية، ثم في بعض وكالاتها المتخصصة، مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية ممثلاً له في الجزائر، وأيضاً في منظمة اليونسكو، قبيل أن يتقلد مناصب دبلوماسية ووزارية في بلده، أهمها وزارة الخارجية. إنه منصور خالد. رحل يوم 23 نيسان الجاري في مدينته التي أحبّها، أم درمان.

حينَ كسبَ السودان عضوية مجلس الأمن في 1972، كان وزير الخارجية، منصور خالد، رئيساً للمجلس الذي عقد جلسته خارج مقرّه في نيويورك، منتقلاً، للمرّة الأولى، إلى أديس أبابا. السودان الذي عرفه العرب سنداً للقضية العربية، فضمّدت قمة الخرطوم جرح هزيمة حزيران 1967، عرفته القارّة السمراء سنداً صادقاً لحركات التحرّر الأفريقية، مادياً ومعنوياً. على أيامه مندوباً للسودان في الأمم المتحدة، ثم وزيراً للخارجية أوائل سبعينات القرن الماضي، ظلّ منصور خالد، على حصافته، متنبّهاً إلى التوازن في علاقات السودان في دوائر انتماءاته المتعدّدة، إقليمياً ودولياً.

تحفظ الذاكرة السودانية للدكتور منصور خالد، أنه العقل السياسي وراء اتفاقية السلام في 1972، والتي أوقفت 18 عاماً من نزيف الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه التي اندلعت في 1955، قبيل إعلان استقلال البلاد بأشهرٍ. عاد السلام والاستقرار في السودان من 1972 إلى 1983، حين آثر رئيس السودان، الجنرال جعفر نميري، بعد ذلك، أن يعدّل ويحوّر، وبمزاجٍ خلا من التروّي والحكمة، في بنود الاتفاقية، فتجدّدت الحرب. كان منصور قد فارق نظام جعفر نميري الذي مزّق اتفاق السلام، لكنه لم يفارق اهتمامه بهموم بلاده. النكوص البيّن عن ذلك الاتفاق، وأسباب أخرى، أبقته معارضاً شرساً للنظام الشمولي الذي قاده جعفر نميري 16 عاما. حينَ غادر السودان بعد سقوط نظام نميري في 1985.

أجل، يتذكّر السياسيون والدبلوماسيون في العالم "قمّة الأرض"، وتقرير لجنتها "مستقبلنا المشترك"، والذي عُرف أيضاً باسم تقرير لجنة برونتلاند ومنصور خالد الخاص بقضايا البيئة والتنمية. أنشأتْ الجمعية العامة للأمم المتحدة اللجنة لمعالجة قضايا البيئة والتنمية، وأوكلت رئاستها إلى غرو هيلم برونتلاند، ولمنصور خالد أن يكون نائباً للرئيسة. قادا معاً العمل المتشعّب الذي اجترح تقارباً جديداً بين النشاطات التنموية في مختلف البلدان، وعلاقتها بقضايا البيئة ومستقبل سلامة الأرض. وضعت اللجنة، وعبر مؤتمرات عديدة من 1985 إلى 1992، اللبنة الأولى والتعريف المعتمد لما عُرف بعد ذلك بمفهوم "التنمية المستدامة".

تحفظ الذاكرة السودانية إسهامات فكرية وسياسية باذخة للدكتور منصور خالد، عمّدته موثقاً سياسياً لأحوال بلاده وتاريخها المعاصر. ترك لجيله الماثل، ولأجيال قادمة، ثروة فكرية عميقة، بالعربية والإنكليزية، ورصيداً ضخماً من بذله وعطائه الثرّ. ثم وهو يصارع المرض في ثمانيناته، يسطّر تجربته الطويلة في سِفرٍ جامع حوى تجربته ورؤاه، سمّاه "شـذرات .."، وهو في صفحاته التي تجاوزت الألف ونصف الألف، أشمل من أن يكون شذرات، وأثمن من أن يكون محض مذكرات، بل هو استشراف لرؤى لازمة لبناء أساسٍ لدولةٍ رشيدة في السودان، تأخّر تمامها بسبب عثراتٍ من بعض نخبها، ومن بعض صفوةٍ قاصرة النظر من بنيها. رحل منصور وقد شهد ثورة السودانيين في عام 2019، وهم الذين راهن على حراكهم، جيلا قادراً على استعادة بلادهم من الطغاة والمفسدين في أرضه، ومن السارقين كرامته والسالبين عزته.

ما أشدّ حزن السودانيين، بتعدّد أطيافهم السياسية، وبمختلف مشاربهم، على رحيل خالد منصور، من عرفه منهم ومن لم يعرفه، ومن اتفق معه ومن خالفه، فرحيل صاحب إسهام في الفكر والسياسة والدبلوماسية، مثل منصور خالد، قلّ أن يماثله رحيل.