الشيخ نزيه مطرجي

لا جرم أن رسولنا الأكرم صلى الله عليه و سلم هو سيّد البشر وأكمل الخلْق، وقائد الخلق إلى الحق، وإن حبَّ المؤمنين لنبيّهم وقُربهم منه يتجلى بحسب نصيبهم من متابعته بلزوم نهجه، واقتفاء أثره، واتّباع سُنَّته، فهُم بين مُستقلٍّ ومُستكثِر، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلّا نفسه!
إن كل فضيلة من الفضائل قد أحل الله رسوله في أعلاها، وكلَّ شميلة من الشمائل قد خصَّها الله بذُروة سَنامِها! فحلَّ بذلك في المنزلة الأعلى، والمقام الأسنى، حيث لا يُجاري ولا يُبارَى! «فبلغ العُلى بكماله، وكشَفَ الدُّجى بجماله وعظُمَت جميع خصاله»..
لم يدْنُ من منزلة النبي محمد صلى الله عليه و سلم  أحدٌ من الرُّسل والأنبياء، فضلاً عن الصحابة والأصفياء، وسائر التابعين والأولياء، والشاعر يقول:
كيف تَرقى رُقيّك الأنبياءيا سماءُ ما طاولتها سماءُ
لم يُساوُوك في علاك وقد حالسَنىً منك دونهم وسناءُ
إنما مثَّلوا صفاتِك للناسكما مثّل النجومَ الماءُ
ولكنَّ أتباع النبي الكريم صلى الله عليه و سلم  اليوم، كلٍّ منه يدَّعي به وصلاً ويَنْسِبُ إلى غيره من منافسيه فرْعاً ولنفسه أصلاً! ويأخذ التنافُس منحىً غيرَ مشروع، وتتَّسع شقة الخلاف إلى حد التفرق المذموم، والتباغض المشؤوم!
كلُّ قومٍ يحتجون بحال الرَّسول الأكرم صلى الله عليه و سلم ، وما كان عليه مما يُوافِق حالَهم ونهجهم.. فأهل العبادة يرَون أنفسهم خيرَ ملة والأقرب إلى نبي الأمة! وأهل الجهاد يظنون أنهم بالنبي الكريم أوْلى وأنهم الأَوفر حظاً بالدرجات العُلى!
ورجالُ العِلم والبحث يحتجون بصريح السنة أنهم هُم الأئمة، وأنهم مصابيح الدُّجى، وسادة الهُدى وحُجةُ الله على الأرض، وأن مَثَلهم في الأرض كمَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البرِّ والبحر، فهم في كل أرضٍ بمنزلة الرأس من الجسد.
وأهل الزُّهد الأتقياء الذين لا يرْتكِسون في الشهوات ولا تُغريهم الطيبات ولا تُفسدهم أرائك المناصب والرئاسات، يظنون أنفسهم خيرَ مَن استقام على طريقة الأنام، وأنهم الأصدقُ بالتَّبعِيَّة للسنة النبوية، والمشتغلون بسياسة الدُّنيا لحفظ البلاد وتحقيق مَصالِح العباد على طريقة سيد الأنام، الحاملون للأمانات التي تُشفق من ثِقلها الجبال والسماوات، يحتجّون بسياسة النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم  في جلب المصالح ودفع المفاسد، والسَّيْر في حاجات الناس.
والدعاة إلى الله الآمِرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، الذين يَدْعون إلى الله على بصيرة، يرَون في السَّعْي إلى إقامة الشريعة العمَل الأوجب والفِكر الأَصْوَب.
والطائفة التي نذَرَت نفسها لتنفيس الكروب، وتهوين الخُطوب، وسخَّرت جهودها لتفريج الهموم وتبديد العُموم ومواساة المفجوعين والمعذَّبين لا ترى أحداً أقربَ منها لله وأنجَى منها يوم لُقياه!
أما إنه ما مِن فريق من هذه الفِرق أوْلى برسول الله صلى الله عليه و سلم  من سائر الفِرق، فكلُّهم يَسقُون من نَبْعِ واحد، ويقتبسون من مِشكاةٍ واحدة والشاعر يقول:
وكُلُّهم رسول الله ملتمِسٌغَرفاً من البحر أو رَشْفاً من الدِّيَمِ
إن الطوائف السائرة في دروب الهدى والخير يبارك الله تعالى سَعيها ويشدُّ أزرها، ويرفع شأنها إذا أدركت أن الأمة تحتاج إليها وإلى أخواتها، وأن البنيان لا يبلغ يوماً تمامه إلّا بها وبسائر اللَّبِنات، فلا قوة ولا بقاء إذ دبَّ فيها داء الأمم قَبلها: الحسد والبغضاء وهو الحالِقة التي لا تحلق الشَّعر ولكن تحلق الدِّين! وتُقوِّض أراكين الصَّرح المَتين، وإذا نخَر سوس الأثَرة في عظم تعاوُنها، وقامت بينها معارك مَشْبوهة، ونيران مَصبوبة، انتثر عقْدُ اجتماعهم فصاروا طرائق قِدَداً، وصار أعداؤهم عليهم لِبَداً، وأوشك أن لا ينصُرَ الله منه أحداً.
إن داعيَ الشَّرع يدعونا إلى وجوب التعاون على البرِّ والتقوى وإن سائق المَصالح يحدُونا إلى لمِّ الشَّعثِ وجَمع الشَّمل لدفع عاديات المِحَن، وإخْمادِ وقود الفِتَن!
فإياكم والشِّعاب (التفرق) فإنما يأكل الذِّئبُ من الغنَم القاصية الشاردة! فيا فوزَ من اتَّعَظْ وبِهَدي الله اعتَبَر!>