الشيخ نزيه مطرجي

المصاحبة بالمعروف والمُفارقَةُ بالمعروف خُلُقان يَخرُجان من مِشكاةٍ واحدة، وقد يسهُل على العامّة المُصاحبةُ بالعُرف والمُعاشرة بالوُدِِّ واللُّطف، ولكن يَصعُبُ على أَكثَرِ الخَلقِ المُفارقة بالمعروف مهما رقَّت مشاعرُهم، وقَوِيَت وشائِجُهُم، وصفَت قُلوبُهم.
والحبُّ والبُغض، والقُربُ والبُعد، والحَلِفُ والخَلَفُ، كلٌّ من هذه الخِصال ينبغي أن يُقيَّد بالأناة والهَون، وأن يُحكَم بالاعتدال بلا غُلُوّ.
لقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أكرَمَ مَثلٍ للمصاحبة بالمعروف والمُعاشرة بالحُسنى، كما كان الأُسْوةَ العُظمى في الرَّحمة والمغفرة؛ وقد جاء في الحديث عن صفاته في الكُتُب السابقة: «ليس بِفَظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق؛ لا يجزي السيّئة بالسيِّئة ولكن يعفُو ويصفَح..» فكان يُكرِمُ أهلَ الفَضل ويتألَّفُ أهلَ الشّـَرف بالبِرّ، ولا يَجْفو على أحد، ويقبل مَعذرة المُعتَذِر إليه ويُقيل عثرة الواقع في عِثاره. وكان يُقابِل الجميلَ بالجميل والإحسانَ وبالإحسان؛ يقول عن صاحبِه الصِّدِّيق: «ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلاّ وقد كافأناهُ ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يُكافئُه الله بها يوم القيامة» أخرجه الترمذي؛ ويقول له: «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» أخرجه الترمذي.
وفي خُلُق الرَّجُل مع زوجته في حال الخِلاف والنِّزاع، تأمُر الشريعةُ الأزواجَ بأن يُحسِنوا المُعاشرة في حالتَي الإمساك والفِراق. يقول الله تعالى: {فأمْسِكوهنّ بمعروفٍ أو فارِقوهنّ بمعروف} الطلاق-2، فإما القيام بحقِّ الصُّحبَة على شَرط الوَفاء، وإما تَخْلِيَة سبيل المرأة من غير ظُلمٍ أو جَفاء.
إذا وقعت المُفارقةُ بين الأصحاب في الأذهان والأبدان، جَنَحت النَّفسُ الأمّارة بالمعروف إلى الشـرِّ والفَساد، فوَرَدَت مَواردَ الضَّير والهَلاك، واتَّسَعت رذائل الأخلاق، فإذا بالمتباعِدين بعدَ تدانٍ يُحوِّلون المودَّةَ بُغضاً، والتَّعاونَ نِزاعاً، والأُلفَةَ قطيعة، وإذا بهم يُحِلّون ما يَشِين من الأعمال، ويُحرِّمون ما يَزِين من الأقوال، ويستطيلون على إخوانهم بأَلسِنةٍ حِداد، ويَهجمون في كلِّ وادٍ، ويستمرئون قَبائح الدَّين، قال الله فيهم: {أتأمُرون الناس بالبِرِّ وتنسَون أنفُسَكم وأنتم تَتْلُون الكتاب} البقرة-44.
ما أشبهَ حالَهم بحال قوم الصّحابيِّ عبد الله بن سلام (الحُصَين) الذين سألهم الرسول صلى الله عليه وسلمَ بقوله: «أي رجُلٍ الحُصَين بنُ سَلام فيكم؟» قالوا: سيدُّنا وابنُ سيِّدِنا، وحَبْرُنا وعالِمنا! فلما برَز لهم ابن سلام، وكان مُختَبِئاً، وأخبرَهم بإسلامه، ودعاهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونَ اسمَه وصِفتَه في التوراة، قالوا آنذاك: كذبتَ، أنتَ شرُّنا وابنُ شرِّنا!
عجباً والله كيف يُحَجِّرُ المسلمون واسعاً، ويَجعلون شرائعَ الأخلاقِ والآدابِ حبيسةَ دوائرَ عصبيّة ضيِّقة، فإذا غادروها استباحوا شوائِنَ مُحدَثاتٍ ما أنزلَ الله بها من سُلطان، وخرجَت أقوالُهم عن ضَوابطها الأدبية، وجاوَزَت أفعالُهم حدُودَها الشِّرعية.
إن المفارقةَ كالمصاحَبةِ كلٌّ منهما يُؤسَّس على المعروف، ولكنَّ أكثر الناسِ أساؤوا في الأُولى، وابتدَعوا، فما رعَوها حقَّ رعايتها، وتنَكَّبوا عن سَواء الصِّراط.
وأَكثَرُ المطالَبين بلزوم أدب المفارقة هم الذين نصَّبوا أنفُسهم للإصلاح، فقد اختاروا لهم أمراً جليلاً حسَنَ المَركبِ وَعْرَ المسالِك صعبَ المُرتقى، لذا وجبَ أن يكون صبرُهم عليه صبراً جميلاً، وأن يكون مَصحوباً بكريم الوِصال وجَميل الخِصال.
فإن كان لك أخٌ كريم أو صديق حميم، وتباعدتُما فاعلَم أنه إنْ تَناكرت الأرواحُ بينَكم فلا يحلُّ أن يَنحدِر بك الأمرُ إلى الفِراق والشِّقاق، وتذكَّر مِن سِيَر الأوّلين الصحابيَّ الذي بشّـَره المصطفى صلى الله عليه وسلم بدُخول الجنة، لأنه لا يجدُ في نفسه لأحدٍ من المسلمين غِشّاً، ولا يحْسُد أحداً على خيرٍ أعطاه اللهُ إيّاه؛ وأنّ أبا دُجانة دخَلوا عليه وهو مريض ووجهه مُتهلِّل، فسُئل ما لِوجْهِك متهلِّلاً؟ قال: ما من عملي شيءٌ أوثق عندي من اثنين: أما أحدُهُما فإني لا أتكلمُ إلا في ما يَعنيني، وأما الآخَرُ فكان قلبي للمسلمين سليماً؛
فإن كان صاحِبُك سفيهاً فالهَدْيُ النبويّ يدعوك إلى مُداراة السُّفهاء، وإن كان مُذنِباً فالواجب يقضي عليك بأن تُبغِضَ الذَّنْب لا المُذنِب؛ وعليك أن تُعالِج قلبَك بقولِك ما في كتاب ربِّك: {إلاّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم}.