الشيخ نزيه مطرجي

إن الله تعالى يُعطي الملك مَن يشاء ويَنزِع الملك ممن يشاء، ويُغني مَن يشاء ويُفقِر من يشاء، وإذا أعطى عبداً وأغناه فليس ذلك تشريفاً له، وتكريماً من مولاه، وليس دليلاً على حب الله ورضاه؛ وإذا مَنَع اللهُ عبداً وجعله قليل المال فقير الحال، فليس في ذلك بُرهانٌ على سخط الله الدَّيّان ونِقمَته من ذلك الإنسان.
إذا أعطى الله المطيع الشاكر، ففي ذلك العطاء تمحيصٌ وابتلاء، وإذا أعطى العاصي الجاحد ففي توارد النِّعم عليه استدراجٌ وإملاء!
إنّ بسْط الأرزاق أخطر على المرء من البؤس والإملاق، والإملاءُ أشُّق على النفس من الابتلاء. يقول الله عزّ وجل: {فلما نسُوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} من النِّعم والخيرات، {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} الأنعام-44؛ لما حيزت لهم الدنيا بَطِروا وصالوا تيهاً وأشَراً! وظنوا أن ذلك النعيم قد أوتوه بفضلهم، ورأوا أنه يدوم ويزيد، وأنه لا ينقص ولا يبيد.
إنهم قد غَفِلَت قلوبُهم عن إدراك سُنّةِ الله تعالى في استدراج الفئة المنعَّمة التي بَطِرت معيشتها وما أحل الله بها، وفي ذلك يقول النبي [: «إذا رأيتم الرجل يُعطيه الله ما يحبُّه وهو مقيمٌ على معصِيته فاعلموا أن ذلك استدراج»، ثم قرأ قول الله تعالى: {فلما نسُوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أخرجه أحمد.
ورد في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى نبيّه موسى عليه السلام: «إذا رأيتَ الفقرَ مُقبلاً عليك فقُل: «مرحباً بشعار الصالحين»، وإذا رأيت الغنى مُقبلاً عليك فقُل: ذنبٌ عُجِّلت عقوبته!»
لقد سُلِك بأكثر الأنبياء سُبُل الفقر والبلاء، ولم يُسلَك بهم سبُل الثراء والرّخاء، فإذا سُلك بك سبيل البلاء فكن قرير العين مطمئنّ القلب، فإن ذلك سبيل الصالحين، وإذا سُلك بك سبيل الغِنى والرَّخاء، فقد يكون ذلك خلاف سبيلهم فابْكِ على خطيئتك!
قيل: إنّ الله يحتجُّ يوم القيامة بأربعةِ أنبياء على أربعةِ أجناسٍ من الناس: يحتجُّ على الأغنياء بسليمان عليه السلام، ويحتجُّ على العبيد بيوسف عليه السلام، ويحتج على الفقراء بعيسى عليه السلام، ويحتج على المرضى بأيوب عليه السلام؛ فكأن هؤلاء يُعَدّون أسوةً لمن بعدَهُم من البشر على ما أصابهم، فلا يحلُّ لعبدٍ شغله غِناه أو فقره أو مرضه أو رِقّه عن عبادة ربه عز وجل والتزام أوامره واجتناب نواهيه.
إنّ من سُنن ربِّ العالمين المعلومة من الدين بالضرورة واليقين، والتي لا تتحوَّل ولا تتبدّل، استدراجَ المؤمنين وغيرهم بإدرار النِّعم عليهم وإنسائهم شُكرَها، فيَنْهمِكون في الدنيا ويتنافسون على حيازتها، وينغمسون في الغِواية، ويتنكّبون طريق الهداية.
إنّ الذين يُستدرَجون يظنون أن ما يفيض عليهم من النِّعم ما هو إلا مِنحةٌ ربانية يستحقونها، قد أثابهم الله بها لِصَلاحهم ومنزلتهم عند ربهم! وما ذاك الظَّنُّ الـمَوْهوم إلا من قلة الفطنة وكثرة الغفلة.
عليك أن تكون أشدَّ احتراساً من وُرود النعمة عليك من حُلول الفاقة، وأن لا تَمُدَّنّ عينيك إلى ما متّع الله به غيرَك من زينة الحياةِ الدنيا ونعيمِها ليفْتِنَهم فيه، فإنما هو زهرةٌ زائلةٌ ونِعمة حائلة، يَمتَحِن بها عبادَه العزيزُ الغفور، وقليل من عباده الشَّكور.
فيا أيها النَّهِم الذي لا يشبع! أنصِت إلى أمر ربك في الحديث القُدسيّ حيث يقول: «يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرَك غِنىً وأسدَّ فَقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شُغلاً ولم أسد فقرك» أخرجه الترمذي.
فوازِن أيها المؤمنُ بين مَن جعل الدنيا هَمَّه، ففرّق الله عليه أمره، وجعل فَقرهُ بين عينيه، ولم يؤتِه من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، وبين من جعل الآخرة همَّه، فجمع الله عليه أمرَه، وجعل غِناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة! فاجتهد أن تعرف أين تكون!>