الشيخ نزيه مطرجي

طوبى لمن طابَ مكسَبُه، وزكَت نفقتُه، ووُقِيَت شبهَتُه، واستُجيبَت دعوَتُه. إن في المكاسب والأموال أموراً مشتبهات يتجاهلهن كثيرٌ من الناس، من اجتَنَبَهُنَّ فترك ما يريبه إلى ما لا يريبه سلِم عِرضُه، وبرئ دينُه، ومن أخذ المال لا يُبالي ممّا جمَعه أمِن الحلال أم من الحرام، بالطُّرٌق المشروعة أم بالوسائل الممنوعة، كان مثله كمثل البهيمة نزلَت بوادٍ خصيب فلم يكن همُّها إلا السمن، وإنما حتْفُها في السُّمن.
إن مَن أكل أموال الناس بالباطل ما يأخذه الوُلاةُ والموظفون من الأموال العامّة بغير حقٍ، يسيراً كان أو كثيراً، سرّاً أو علانية، ومَن يفعل ذلك فقد غلَّ، والله تعالى يقول: {ومن يغلُلْ يأتِ بما غلَّ يومَ القيامة، ثم تُوَفّى كلُّ نفسٍ ما كَسَبت وهم لا يُظلمون} آل عمران-161.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: «مَن وَلِيَ لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليس له زوجةٌ فلْيَتَّخِذ زوجة، أو ليس له خادمٌ فليتخِذ خادماً، أو ليس له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غالّ» رواه أحمد.
فالموظف وإن علَت رتبته، وعظُمَت منزلته، في قطاع رسمي أو خاص، لا يحل له أن يأكل من المال إلاّ ما قُدِّر له من الأجر، وكل ما يأخذه سوى ذلك، ولو كان مخيطاً فما فوق، فهو سُحتٌ يأكله صاحبه سُحتاً، «وكل لحمٍ نبتَ من سُحت فالنار أولى به» رواه الترمذي.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «مَن استعملناه على عمل فرزقناه رِزْقاً (أي أعطيناه راتباً) فما أخَذَ بعدَ ذلك فهو غلول» رواه أبو داود.
لقد كان من فضل الله على الأمة أن أرسَلَ إليهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم يُحل لهم الطيبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث، ويُبيِّن لهم الأحْكام، ويُفصِّل الحلال والحرام، وكان بيانه بالمواعظ وبالوقائع؛ ومن ذلك أن معاذ بنَ جبَل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرتُ أرسل في أثري فرُدِدْتُ فقال: أتدري لم بعثتُ إليك؟ قال: لا تُصيبَنَّ شيئاً بغير إذني فإنه غلول.. لهذا دَعَوْتُك فاْمْضِ لعَمَلك» رواه الترمذي.
وما قيمة ما يصيبه الغالُّ من الكنوز والأموال، في مُقابِل ما سيُصِيبه من الدَّواهي والأهْوال في يومِ المآل. فكلُّ شيء غلَّه المؤمِنُ في حياته سيحمِلُه في الآخرة على عُنُقِه، إن كان بعيراً له رُغاء، أو بقرةٌ لها خوار، أو فرساً لها حمْحَمَة، أو شاةٌ تَيْعَر، أو صامتاً (دراهم)، ويناشد الرسول قائلاً: يا رسول الله أغِثْني! فيقول له صلى الله عليه وسلم: «لا أملِك لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغتُك» من حديثٍ رواه الشيخان.
لا نزاع في أن هدايا الولاة والموظفين هي من الغلول المحرَّم، إن كانوا يُعطونها بداعي الوظيفة، والفصلُ بين الحِلِّ والحُرمة في ذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لابن اللُّتْبِيَّة الذي جاءته الهدايا أثناء دوام عمله: «هلّا جلسَ أحدكم في بيت أبيه وأمه فنظَر أيُهدى إليه؟ رواه أحمد. والقاعدة توجِب أن يقدر نفسه في بيت أبيه وأمه، فما يُعطى بعد العزل وهو في بيته يجوز أن يأخذه في ولايته، وما يعلم أنه يُعطاه لولايته فحرام أخْذه، وما أشكل عليه من هدايا أصحابِه فهو شُبهة فلْيَجتَنِبهُ. وكما للسلطان دورَه في حماية الثُّغور وصدِّ الأعداء، فإن له دوره في مَنْعِ الغُلول وزَجْر الأشقياء، وإن الله تعالى يزَع بالسُّلطان ما لا يَزَع بالقرآن.
كان الخليفة عمر رضي الله عنه شديدَ اليقَظَة في مُراقبة وُلاتِه وعُمّاله، مهما نأَت بهم الدِّيار، وقد ذكر الأديب الجاحظ عنه أنه كانَ عِلمُه بمَن نأى عنه من عُمّاله ورعِيَّته كعِلمِه بمن بات معه في مهادٍ واحد وعلى وِسادٍ واحد.
فإن فَشَا لعاملٍ له هيئةٌ في ملبسه أو مَطعِمه أو مَركَبه أو مسكنه من أثر الوظيفة، كان يُشاطره مالَه، ويردَّ الشطر إلى بيت المال. وقد قاسَم بعض القادة والصحابة أموالهم! فإذا افتُضِحَت آثار النِّعم كان يتوعَّد ويقول: أبتِ الدَّراهِمُ إلاّ أن تُظهِرَ أعناقها! ولكنّ الرقابةَ العُمَريّة للرعيَّة لا تتأتّى إلّا لمُتَوَلٍّ عَرَف وكفَّ وكان على نهْجِ من قيل فيه: عفَفْتَ فعفُّوا ولو رتَعْتَ لرَتَعوا!