الشيخ نزيه مطرجي

إن من أسباب علوّ الرُّتَب أن يتحلّى المرء بكمال الأدب، فلا يصدر منه ما يُوجِب الذَّم واللوم، ولا يقع ما يُخلّ بالكرامة أو يجلب المهانة.
إن حاجةَ المؤمنِ إلى التهذيبِ والأدبِ أعْظَمُ من حاجته إلى المطْعَم والمشرَب! وإن للأدبِ شرفاً يفوقُ شرَف الأصل والنَّسب، بل إن الأدبَ يستُر قبيح النَّسب! وقانونُ الأدبِ يفرِضُ على المرء أن يأخُذَ نفسَه بقواعدِ التخلّي والتحلّي، فيتخلّى عن النقائص والقبائح، ويتحلّى بالـمَحامد والفضائل، ويرفُل في أثواب الكمال في جميع الظروف والأحوال.
لقد حَفِلَت سُنَّة النبي صلى الله عليه و سلم بالدَّعوة إلى كمالات الأخلاق والآداب، فمما رُوي عنه في الأخلاق قوله: «أمَرَني ربي بتِسعٍ: الإخلاصِ في السرِّ والعلانية، والعدلِ في الغضب والرِّضا، والقَصْدِ في الغِنى والفقر، وأن أعفوَ عمّن ظلمني، وأصِلَ مَن قطعني، وأُعطِيَ مَن حرمني، وأن يكون نُطْقِي ذِكراً، وصَمتي فِكراً، ونَظري عِبرة» (جامع الأصول). ومما قاله في الآداب: «ليسَ مِنّا مَن لم يُوَقِّر كبيرنا ويَرحَم صغيرنا ويعرِف لعالِمِنا حقَّه» رواه أحمد. إن علماء السِّيَر والأخلاق يرَون أن العقلَ بلا أدب كالشجر العاقر (الذي لا ثمر له)، ومع الأدب كالشجر الـمُثْمِر، ويُلِحّون بالدعوة إلى اكتساب الأدب. يقول أحدهم:
كُنِ ابنَ مَن شئتَ واكْتَسِب أدباًيُغنيك محمودُه عن النَّسب
وأعظمُ الأدب هو الأدبُ مع الله عز وجل، ومَن تأدَّب مع الله صار من أهلِ محبَّة الله. وإذا تأمَّلنا خِطاب الأنبياء لِذي الجلال وسُؤالهم الله الـمُتَعال، تجدُ عباراتهم مُفْعَمةً بالأدب والإجلال كما نصَّ على ذلك الأئمة الأعلام.
جاء في القرآن الكريم حكايةً عن المسيح عليه السلام: {إن كنتُ قلتُه فقد عَلِمتَه} المائدة-126، ولم يقل لم أقُله، وهناك فرقٌ بين الجوابين في حقيقة الأدب. وقولُ إبراهيم عليه السلام: {الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يُطعِمني ويَسقين.وإذا مرضتُ فهو يشفين} الشعراء-78، ولم يقل: إذا أمرَضني، وفرقٌ بين الجوابين في حقيقة الأدب. وقول موسى عليه السلام: {ربِّ إني لِما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير} القصص-24، ولم يقل أطعِمني.
ومن الأدب مع  الله تعالى أن يتجمَّل المسلم بلباسه ويتزيَّن ليقف بين يدي ربِّه في الصلاة على أفضل صورة، وأن يقِف في صلاته بين يدي ربه مُطرِقاً خافِضاً طَرْفَهُ إلى الأرض لا يرفعُ بصره إلى السماء، والناس يفعلون مِثل هذا مع الملوك والسَّلاطين، فأَولى لهم أن يتأدَّبوا مع ربِّ العالَمين بهذا الأدب الرَّصين.
ومن الأدب مع النبي الأعظم صلى الله عليه و سلم انقيادُ المؤمن لأمرِه والتَّسليم لحُكمه، وأن لا يدعوه بِاسْمِه بل يُخاطِبُه في حياته، وبعد مماته عند زيارة قبره الشريف والوقوف أمام مقامِه بِيا رسول الله، يا نبيَّ الله!
والأدب مع الخَلق بأن يُعامِلَ الناس بما يليق من المناقب، وما يَحسُن من الآداب والخِصال! والناس من حوله مقامات وطبقات، ولكلٍّ درجاتٌ في الحقوق والواجبات، فللوالدَين أدبٌ خاص يدعو إلى بِرِّهما وطاعتهما، والقيام بخدمتهما وعدم رفع الصوت فوق صوتِهِما، والدَّعاء لهما بعد موتهما، وصِلة الرحم التي لا تُوصل إلّا بهما. ورد في الحديث الصحيح: «رضا الله في رِضا الوالدين، وسَخَطُ الله في سخَط الوالدين» (سبل السلام).
وفي أثر دعاء الابن لوالدَيه ورَدَ عن أبي هُريرة رضي الله عنه: تُرفع للميت بعدَ موتِه درَجَته فيقول: أيْ ربي! أي شيء هذا؟ فيقول له: ولدُك استغفَر لك! (الأدب الـمُفرَد)، والأدب مع الأم والبِرُّ بها مُقدَّمٌ على الأب؛ فقد ورد أن رجلاً مسلماً قتل امرأة وجاءَ إلىابن عباس نادماً يسأله إن كان له توبة فقال له: أمُّك حَيَّة؟ قال: لا، قال تُب إلى الله عزّ وجل وتقرَّب إليه ما استطعت! فقيل لابن عباس، لم سألتَه عن أُمِّه؟ قال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عزّ وجل من بِرِّ الوالدَة! والأدبُ مع الأب من أكرَمِ صِفات الأدب، ورَدَ في السُّنة أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه شيخٌ كبير، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: يا هذا، مَن الذي معك؟ قال: أبي، قال «فلا تمشِ أمامَه، ولا تجلِس قَبله، ولا تَدعُه باسْمه» (مجمع الزوائد).
إن من أشد العقوبات التي تنزل بالمؤمن في الدنيا عقوبة الولد الذي يتأفَّفُ من أبويه ويتضجَّر منهما، ويعلو صوتُه عليهما ويُقَرِّعُهُما بكلماتٍ مُؤذِية جارحة، ويجلِبُ الإهانة لهما والمسبّة لشخصِهِما. جاء في الحديث الصحيح: «ثلاثةٌ حرَّم الله عليهم الجنة: مُدمِنُ خَمر والعاقُّ لوالديه والدَّيُّوث الذي يُقِرُّ الخبث في أهله» رواه أحمد. ثم يأتي الأدب مع ذَوي الأرحام والأدبُ مع وُلاة الأمر ومع الأقران والأصحاب والجيران.. كما يُكلَّف المؤمن بالقيام بآداب الأحوال ومنها: أدب الأكل والشُّرب والرُّكوب، والدخول والخروج والسفر والنوم والكلام والسَّماع...
إنَّ أدَبَ المؤمِن في الدُّنيا زينةٌ وجمال، وفي الآخرة مَنزِلةٌ وكمال! فهنيئاً لمن أنعم اللهُ عليه بخَيْرَي الدنيا والآخرة بحُسن الأدب، وتَعْساً لمن استجلَب حِرمانهما بسوء الأدَب!>