العدد 1436 / 11-11-2020
أوّاب إبراهيم

لم تواجه الولايات المتحدة يوماً فاسداً أو طاغية أو مجرماً لأنه فاسد وطاغية ومجرم، بل لأنه رفض السير بالركب الأميركي، ولو أنه قبل بذلك لأهملت الإدارة الأميركية الفساد والطغيان والإجرام إذا وُجد طالما أنه ينسجم مع مصالحها. في حين أن من يرفض الخنوع للإدارة الأميركية يصبح فاسداً وطاغية ومجرماً يجب القضاء عليه وسحقه ولو لم يكن كذلك.

لا العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على جبران باسيل ستجعل منه بطلاً، ولا ستجعل منه فاسداً. هي إجراءات سياسية ظاهرها قضائي تستخدمها العنجهية الأميركية لتحقيق مآربها بعيداً عن المعاني والمبررات والأسباب المُعلنة التي دفعت لاتخاذها. وجدت واشنطن أن باسيل لايسير وفق ما تريد، ويقف إلى جانب خصومها، فتم إدراجه على لائحة العقوبات. النظر في الأسباب الموجبة لهذا الإدراج مجرد تفاصيل لا طائل من التدقيق في مضمون. ربما لايكون باسيل فاسداً، ومن المؤكد أنه في حال فساده فإنه ليس وحده، بل يتشارك في ذلك مع آخرين كُثر، ربما زاد فسادهم عن فساده، لكن هذا ليس مهماً، المهم بالنسبة للإدارة الأميركية أنها أرادت اليوم اتهام باسيل بالفساد وأدرجته على لوائح عقوباتها، وأهملت الآخرين وتركتهم خارج لوائح عقوباتها.

سبق للولايات المتحدة أن اتهمت كثيرين بالفساد وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ليتبيّن أن الجرم الشائن الحقيقي الذي ارتكبه هؤلاء هو رفضهم الركض وراء الجزرة الأميركية، وكان جزاؤهم توجيه اتهامات لهم ومعاقبة الدول التي يحكمونها، وفي حالات أخرى شنّت واشنطن حروباً على هذه الدول وشعوبها، فقط لأنها رفضت السير بالركب.

هو نهج دأبت عليه الإدارات الأميركية على اختلافها وتعاقبها. هي عنجهية فارغة، لا تقتصر على الولايات المتحدة بل تشمل معظم دول الغرب. أنظمة تعتبر أن لها الحق بأن تشيطن من تشاء وتعفو عمن تشاء، وليست مضطرة لتقديم المبررات والأسباب. يحق لها ما لايحق يحق لغيرها. الفاسد هو الذي تقول عنه فاسد، وليس بالضرورة أن يكون فاسداً، والمجرم هو الذي تصنّفه مجرماً ولو كان لايجرؤ على إيذاء قطة. هكذا فعلوا مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ساندوه ودعموه وأيّدوه في حربه ضد إيران التي كانت أعلنت "ثورتها الإٍسلامية". استمرت حرب الاستنزاف هذه ثماني سنوات وخلّفت قرابة مليون قتيل، ثم بعد انتهاء الحرب اكتشفوا أن الرجل طاغية مجرم فاسد استخدم أسلحة كيميائية لقمع شعبه، فاستنفروا العالم للمشاركة في القضاء عليه، ليكون ذلك ذريعة لاحتلال العراق ونهب خيراته.

هكذا فعلوا بالمجاهدين الأفغان الذين كانوا يواجهون الاحتلال السوفياتي. فساعدوهم ودعموهم وسلّحوهم ودرّبوهم، ثم بعدما انسحب السوفيات من أفغانستان ولم يعد للغرب حاجة بهم تحوّل من كانوا "مجاهدين" إلى إرهابيين قتلة يجب سحقهم، وكانوا أيضاً ذريعة لاحتلال أفغانستان.

هكذا فعلوا بالزعيم الليبي معمّر القذافي، الذي كان صديقاً للغرب يمدّهم بالمال ويموّل حملاتهم الانتخابية ولم يكن أحد يتطرق إلى فساده وطغيانه، ثم حين تغيّرت الظروف انقلب أصدقاؤه عليه، وقضوا على نظامه ولاحقوه وقتلوه بطريقة مهينة.

هكذا فعلوا مؤخراً بالسودان. حين كان قرارها مستقلاً رافضاً للهيمنة الأميركية كان السودان محاصراً مدرجاً على لوائح الإرهاب. لكن حين خضع النظام السوداني الجديد للرغبة الأميركية واقترب من التطبيع مع الكيان الإسرائيلي بات السودان شريفاً نزيهاً طاهراً عطراً.

شهادات النزاهة التي يقدمها الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة لا تبرّئ مجرماً ولا تطهّر فاسداً، كما أن شهادات الإدانة والفساد لا تدين صالحاً ولاتلطخ سمعة شريف. حريّ بالإدارة الأميركية أن توزّع شهادات الإدانة والفساد على أركانها الذين يتفرج عليهم العالم هذه الأيام يتقاذفون تهم الفساد والتزوير، ويضربون أسس النظام الديمقراطي الذي يتفاخرون به.

هذا لايبرّئ جبران باسيل من شبهات فساد كثيرة تلاحقه وتحوم من حوله، لكن اتهامه من الإدارة الأميركية حتماً لايدينه.