أواب إبراهيم

«جمعة الكاوتشوك» هو الاسم الذي أطلقه أبناء قطاع غزة على يوم الجمعة الذي من المتوقع أن يشهد مواجهات جديدة مع جيش الاحتلال عند حدود القطاع. وتحضيراً لذلك، قام الغزيون خلال الأيام الماضية بجمع مئات إطارات السيارات المستعملة تمهيداً لإحراقها عند المنطقة الحدودية، على أمل أن يساهم الدخان المتصاعد في التعمية على جنود الاحتلال ومنعهم من استهداف المتظاهرين.
مازلت لم أفهم ما الذي استجد حتى باتت المنطقة الحدودية مكاناً للتظاهر، فالحدود موجودة منذ العام 1967 وكذلك جنود الاحتلال. فلماذا تحولت هذه المنطقة من منطقة آمنة، إلى مسرح للمواجهات سقط فيها خلال أيام مئات الشهداء والجرحى، والأمور مرشحة للاستمرار؟!. أفهم أن المنطقة القريبة من الحدود شكلت مكاناً رمزياً لتنظيم فعاليات لمناسبة يوم الأرض للتأكيد على حق العودة ورفض «صفقة القرن» والتمسك بفلسطين كل فلسطين، لكن من غير المفهوم أن تشكل المناسبة انطلاقة لمواجهات يومية، يقوم خلالها الفلسطينيون بالاقتراب من الشريط الشائك ورشق جنود الاحتلال بالحجارة والسعي لرفع العلم الفلسطيني على الشريط، الأمر الذي يقابله الاحتلال –المعروف بهمجيته وإجرامه- بإطلاق الرصاص الحي، فقتل من المتظاهرين –حتى كتابة هذه السطور- أكثر من 17 فلسطينياً وأصاب أكثر من 1500.
من المسلّم به أن ما تشهده المنطقة الحدودية في قطاع غزة مؤشر واضح على إصرار الشعب الفلسطيني على التمسك بأرضه، ورفضه لكل المخططات التي تحاك من حوله لسلبه أرضه وكرامته وقدسه، كما أن الحراك الشعبي الحاصل مهم وضروري لإبقاء جذوة مقاومة الاحتلال في النفوس والقلوب، لكن من الممكن تحقيق أهداف هذا الحراك من خلال تحركات وأنشطة شعبية تؤدي لإيصال الرسالة المطلوبة، وفي الوقت نفسه تحفظ دماء أبناء الشعب الفلسطيني، ولا يكون الثمن سقوط هذا الكم من الدماء والتضحيات، ففارق كبير بين أن يستشهد الفلسطيني خلال مواجهة مسلحة مع الاحتلال أو أثناء حفر نفق لاختراق صفوفه أو خلال تنفيذ عملية استشهادية، وبين أن يسقط شهيداً خلال محاولته تعليق العلم الفلسطيني على الشريط الشائك.
شكلت انتفاضة الحجارة التي اشتعلت عام 1987 انطلاقة جديدة للنضال الفلسطيني ومقاومة الاحتلال. وكان الفلسطينيون يواجهون الرصاص والقذائف بالحجر والمقلاع، وقد حقق هذا الشكل من المقاومة أهدافه حينها، خاصة أن الحجر والمقلاع كان الوسيلة الوحيدة المتاحة للمواجهة. لكن المقاومة الفلسطينية منذ ذلك الحين قطعت أشواطاً كبيرة من التقدم والاحتراف والنجاحات، وتحوّل الحجر إلى صاروخ يصل إلى العمق الصهيوني، وصار المقلاع نفقاً يخترق صفوف الاحتلال فيتسلل من خلاله المقاومون لأسر جنود، وباتت سبل مواجهة الاحتلال كثيرة ومتنوعة ومؤلمة له، ولم يعد من المناسب دفع أثمان غالية في وسائل مقاومة يمكن استبدالها بوسائل أخرى أكثر فاعلية وتأثيراً وإيلاماً للاحتلال.
المشاهد البطولية التي يجسدها الشعب الفلسطيني عند حدود القطاع تُحسب له، وتؤكد إصراره على تمسكه بأرضه، لكن ذلك لايعني استرخاص النفوس والتفريط بالدماء. فلاخلاف على أن العدو الإسرائيلي قاتل ومجرم ومغتصب، ولو كان بمقدوره التخلص من الشعب الفلسطيني برميه في البحر لفعل ذلك، لكنه في النهاية دولة تسعى للظهور أمام العالم في صورة من تحترم القانون وحقوق الإنسان، لذلك هو لا يجرؤ على استهداف المدنيين دون ذريعة يقدمها للعالم، خاصة أمام كاميرات وسائل الإعلام، لذلك هو يستغل الفعاليات السلمية التي تشهدها المنطقة الحدودية ليقول للعالم أنه يتعرض لاعتداء، وأنه في إطلاق الرصاص الحي على المدنيين فإنه يحمي حدوده.
فلسطين غالية، والقدس والأقصى أيضاً، لكن أرواح الفلسطينيين ودماؤهم غالية كذلك. والشعب الفلسطيني لن يبخل بروحه ودمه وكل ما يملك لتحرير فلسطين ودحر الاحتلال عن أرضه، لكن، لايعني ذلك أن يتم التفريط بدماء الفلسطينيين لرشق حجر عند الحدود أو الاقتراب من الشريط الشائك، وهذا عبء لايقع على عاتق الشباب الفلسطيني المتحمس، بل على عاتق المعنيين الذين بمقدورهم تصويب البوصلة.