العدد 1428 / 16-9-2020
أواب إبراهيم

".. إذا كان الهدف هو تكريس التوقيع الثالث فهذه مثالثة ونحن نرفضها حتماً" وضرب بيده على الطاولة. كان جبران باسيل يتحدث عن تشكيل الحكومة الجديدة، وينتقد من دون أن يسمّي حركة أمل وحزب الله لتمسكهما بوزارة المال.

بلحظة معينة، يختفي الخطاب الوطني الوحدوي الجامع الرافض للطائفية والداعي للانصهار والتعاون والتشارك والدولة المدنية، وتبرز مكانه تكشيرة رئيس مجلس النواب نبيه بري متمسكاً بوزارة المالية لطائفته. انفعالات بري تختبئ وراءها أخرى لحزب الله، الخجول من إبراز انفعالات حرصاً على خطوط الودّ مع حليفه رئيس الجمهورية.

في إطلالته الأخيرة كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها أمين عام حزب الله عن الحاجة لعقد سياسي جديد. فحزب الله ومعهم الرئيس نبيه بري أكدوا بمناسبة ومن دون مناسبة تمسكهم بالتركيبة السياسية القائمة، وعدم الحاجة للبحث في صيغة جديدة للحكم، أو المساس باتفاق الطائف. لكن هذا التأكيد انكشف أنه كلام للاستهلاك والضحك على الذقون ولم يعد له مكاناً من الإعراب في ظل إصرار الثنائي الشيعي على حيازة وزارة المال والعضّ عليها بالنواجز، وعدم التخلّي عنها ولو أدى ذلك لتعذر تشكيل الحكومة. فالهدف من هذا الإصرار وليس سراً، وهو حضور التوقيع الشيعي (من خلال وزير المال) على كل القرارات والمراسيم التي تصدر عن مجلس الوزراء. فحتى تكون قرارات الحكومة دستورية يشترط أن تكون ممهورة بتوقيع رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس مجلس الوزراء (السني) إضافة لتوقيع وزير المال. وإصرار حزب الله وحركة أمل على وزارة المال غايتها أن لايصدر قرار أو مرسوم عن مجلس الوزراء إلا أن يكون ممهوراً بتوقيع الوزير (الشيعي) إلى جانب توقيعي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. وهذا يعني حكماً أن التوقيع الشيعي بات مكافئاً من الناحية الدستورية للتوقيع الماروني والسني، وهو ما ترفض الإقرار به القوى السياسية من الطوائف الأخرى، سواء كان رفضها تصريحاً كما عبّر مؤخراً جبران باسيل، أو غضّاً للطرف كما تفعل قوى أخرى تحرص على عدم افتعال مشكلة مع الثنائي الشيعي.

ما يغفل عنه البعض هو أن الظروف وموازين القوى التي كانت حين تمّ التوصل للتركيبة السياسية القائمة في اتفاق الطائف قبل أكثر من ثلاثين عاماً (1989) طرأ عليها الكثير من التغيّرات والتبدلات. فبعض القوى قويت وتقدمت، وأخرى ضمُرت وضعُفت وتراجعت. طوائف باتت في الطليعة بعدما كانت من "المحرومين"، وطوائف أخرى تشعر بالضعف والترهل والهزال رغم أنها كانت تعتبر نفسها "أمّ الصبي". أبرز هذه التغيرات هو ما طرأ على الطائفة الشيعية وأحزابها من تبدلات، جعلها تنتقل من طائفة كانت رقماً من الأرقام، لتصبح أحد أبرز الأرقام وأقواها. وبات لها أحزاب نافذة اتسعت شعبيتها في الشارع، وامتلكت كتلة نيابية وازنة، ودخلت الحياة السياسية، وتغلغلت في إدارات الدولة ومؤسساتها، وامتلكت قوة عسكرية إقليمية. هذا الواقع المتغيّر كان طبيعياً أن يبحث عن انعكاس له في التركيبة السياسية. فإذا لم يكن بالإمكان تغيير هذه التركيبة بسبب عدم إثارة ريبة الأطراف الأخرى، فليكن من خلال تكريس أعراف لا أصل لها، كاستيلاء الطائفة الشيعية على وزارة المال.

فائض القوة الشعبية والسياسية والعسكرية الذي باتت الطائفة الشيعية تشعر به، شجّعها لتغيير التركيبة السياسية دون إعلان. فلم يعد يكفيها الإمساك برأس السلطة التشريعية والتحكم بمجلس النواب وإقفال أبوابه حين تشاء وفتحه حين تشاء، بل صار الهدف هو توسيع النفوذ للتأثير والتحكم بالسلطة التنفيذية من خلال اشتراط مشاركة الشيعي مع الماروني والسني في كل القرارات الصادرة عن مجلس الوزراء.

اللبنانيون أمام خيارين، إما الاستمرار بطمس الرؤوس في الرمال، وتكريس أعراف غير دستورية وغير قانونية كالرضوخ للاستيلاء على وزارة المال، وإما قوننة الثقل الذي باتت تمثله الطائفة الشيعية في الحياة السياسية، وبالتالي تعديل التركيبة السياسية القائمة بما يتناسب مع التغيّر الحاصل في موازين القوى، وإلا فإن اللبنانيين سيتعثرون عند كل استحقاق دستوري، بسعي الطائفة الشيعية وأحزابها لترسيخ حضورها وتوسيعه، ولن تكون المطالبة بوزارة المال آخر المساعي.

أوّاب إبراهيم