العدد 1472 /4-8-2021

يتمسّك اللبنانيون وأهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، مع مضي عام على المجزرة، بالحقيقة أكثر من أي وقتٍ مضى، في ظلّ مواصلة المنظومة الحاكمة التي وعدت بتحقيق شفاف وإعلان نتائجه خلال خمسة أيام، معركتها لضرب التحقيقات وحرفها عن مسارها، عبر مناورات احتيالية واجتهادات قانونية استنسابية تحمي كبار المسؤولين من العقاب عن قتل 216 شخصاً وإصابة نحو 7 آلاف آخرين.

ولم تعد عرقلة المسؤولين اللبنانيين لمسار التحقيق خفية، وهو ما دفع منظمة "هيومن رايتس ووتش" للمطالبة بفرض عقوبات على المسؤولين وإجراء الأمم المتحدة تحقيقاً مستقلاً في الانفجار، وذلك فيما يكثف أهالي الضحايا ضغوطهم، مع إمهالهم وقتاً محدداً لرفع الحصانات عن المسؤولين السياسيين والأمنيين المطلوبين للقضاء، فيما تنطلق اليوم الأربعاء تحركات حاشدة لإحياء الذكرى، من مختلف المناطق باتجاه بيروت، عنوانها الأكبر تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار، في ظل إجراءات أمنية مشددة عنوانها.

واتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أمس الثلاثاء، السلطات اللبنانية بالإهمال "جنائياً" وانتهاك الحق بالحياة. ووثّقت المنظمة في تقرير مفصل من 126 صفحة الأخطاء والإغفالات التي ارتكبها موظفون ومسؤولون سياسيون وأمنيون في طريقة إدارتهم شحنة نترات الأمونيوم منذ وصولها إلى المرفأ على متن سفينة "روسوس" في 2013 وحتى وقوع الانفجار. وأوردت "رايتس ووتش" أن "الأدلة تشير إلى أن العديد من المسؤولين اللبنانيين كانوا، على أقل تقدير، مهملين جنائياً بموجب القانون اللبناني في تعاملهم مع الشحنة، ما أوجد خطراً غير معقول على الحياة". وأضافت "تُظهر الوثائق الرسمية أن بعض المسؤولين الحكوميين توقّعوا وقبلوا ضمنياً مخاطر الوفاة التي يشكلها وجود نترات الأمونيوم في المرفأ"، موضحة أنه "بموجب القانون المحلي، يمكن أن يرقى هذا الفعل إلى جريمة القتل قصداً و/أو القتل بغير قصد". وتابع التقرير "بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن تقاعس الدولة عن التحرك لمنع المخاطر المتوقعة على الحياة ينتهك الحق في الحياة". واتهمت المنظمة وزارتي المالية والأشغال العامة والنقل بـ"الفشل في التواصل أو إجراء التحقيق الملائم" في الشحنة ومخاطرها، كما لم تتخذ "أي من الأجهزة الأمنية العاملة في المرفأ خطوات مناسبة لضمان سلامة المواد أو وضع خطة طوارئ أو إجراءات احترازية في حال اندلاع حريق".

وبحسب تقرير المنظمة، علم رئيس الحكومة آنذاك حسان دياب للمرة الأولى بوجود الشحنة في يونيو/حزيران 2020، وقال لـ"هيومن رايتس ووتش" إنه طلب من جهاز أمن الدولة تحضير تقرير خلال أيام. وأضاف "نسيت أمره لاحقاً ولم يتابع أحد الموضوع. هناك كوارث تقع كل يوم".

وفي 20 يوليو/تموز 2020، تلقّى رئيس الجمهورية ميشال عون ودياب تقريراً مختصراً "غير كامل" من جهاز أمن الدولة حول مخاطر نترات الأمونيوم في حال اشتعالها أو سرقتها. ووجّهت "رايتس ووتش" أصابع الاتهام في تقريرها لكل من عون ودياب ومدير عام جهاز أمن الدولة طوني صليبا وقائد الجيش السابق جان قهوجي ووزير المالية السابق علي حسن خليل ووزيري الأشغال العامة السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس. واعتبرت أن هؤلاء، وغيرهم، "فشلوا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الناس". ودعت المجتمع الدولي إلى فرض عقوبات على المسؤولين "المتورطين في الانتهاكات الحقوقية المستمرة المتعلقة بالانفجار والسعي إلى تقويض المساءلة". وأوصت مجدداً مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بإجراء تحقيق مستقل في الانفجار، مشيرة إلى أن تحقيقاً مستقلاً قد يتمكن من تحديد الشرارة التي أودت لوقوع الانفجار.

من جهتها، اتهمت منظمة العفو الدولية، أول من أمس الإثنين، السلطات اللبنانية بأنها تعرقل "بوقاحة" مجرى التحقيق في انفجار مرفأ بيروت للتوصل إلى الحقيقة وتحقيق العدالة للضحايا. وقالت المنظمة إن "السلطات اللبنانية أمضت السنة المنصرمة وهي تعرقل بوقاحة بحث الضحايا عن الحقيقة والعدالة في أعقاب الانفجار الكارثي الذي وقع في مرفأ بيروت". وأضافت أن "الجهود التي بذلتها السلطات اللبنانية بلا كلل ولا ملل طوال العام لحماية المسؤولين من الخضوع للتحقيق عرقلت على نحو متكرر سير التحقيق". وقالت لين معلوف، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة: "لقد تقاعست الحكومة اللبنانية على نحو مأساوي عن حماية أرواح شعبها، تماماً مثلما قصّرت لمدة طويلة للغاية في حماية الحقوق الاجتماعية - الاقتصادية الأساسية". وأضافت "نظراً لحجم هذه المأساة، فمن المذهل أن نرى المدى الذي تستعد السلطات اللبنانية أن تذهب إليه لحماية نفسها من التحقيق".

شهد مسار التحقيق منذ وقوع الانفجار محاولات واضحة لمنع الوصول إلى محاكمة المسؤولين. بعد إحالة الحكومة اللبنانية، في 10 أغسطس 2020 وقبيل استقالتها، ملف الانفجار إلى المجلس العدلي، جرى تعيين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً، ولم تصدر وقتها أي لوائح اتهامية، لكن وُجهت التهم إلى 37 شخصاً، 25 منهم تعرضوا للتوقيف بظروف تنتهك حقوقهم بالإجراءات القانونية الواجبة، وفق تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش". اقتصر الموقوفون على مسؤولين في المرفأ، من أمنيين وعسكريين وإداريين، من دون أن يطاول أيّاً من الشخصيات السياسية. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، اتهم القاضي صوان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين هم علي حسن خليل، غازي زعيتر (ينتميان إلى حركة أمل برئاسة نبيه بري)، ويوسف فنيانوس (مستشار رئيس تيار المردة سليمان فرنجية) بجرم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص. تعرض صوان لحملات سياسية، قبل نقل الملف منه بعد طلب من حسن خليل وزعيتر، ليعيّن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار خلفاً له في 19 فبراير/شباط الماضي.

قرر البيطار في 15 إبريل/نيسان الماضي تخلية سبيل ستة موقوفين في القضية، ليبقى 19 موقوفاً. وفي يوليو/تموز الماضي، أطلق البيطار مسار الملاحقات، وأضاف إلى المطلوبين النائب نهاد المشنوق، بوصفه وزير داخلية سابقاً، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم وقادة أمنيين وعسكريين. ولاقت هذه الاستدعاءات، التي تتطلب رفع حصانات للنواب وإعطاء إذن بملاحقة الأمنيين والعسكريين، حملة هجوم جديدة على المحقق العدلي.

بدأت التدخلات السياسية بشكل فاضح ومعها معارك الإفلات من العقاب، وتجلت بثلاث مناورات سياسية، الأولى بطلبات غير قانونية للهيئة المشتركة لمجلس النواب التي طلبت المحقق العدلي تزويدها مستندات، وخلاصة عن الأدلة تتعلق بالنواب المطلوب رفع الحصانة عنهم، بشكل يتعارض مع سرية التحقيق. والثانية بتوقيع نواب طلب اتهام لملاحقة دياب والوزراء السابقين أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء غير المفعل منذ التسعينيات، والثالثة في اقتراح كتلة "المستقبل" النيابية برئاسة سعد الحريري بتعليق كل المواد القانونية التي توفر الحصانات لرئيس الجمهورية ورؤساء الحكومات والنواب والمحامين وهو ما يعدّ شبه مستحيل ويتطلب تعديلاً دستورياً ووقتاً طويلاً حتى ينفذ، وقد نال الاقتراح رفضاً من تكتل صهر رئيس الجمهورية النائب جبران باسيل "لبنان القوي".

وبعد مرور سنة على الانفجار، أبدى رئيس الجمهورية ميشال عون استعداده للإدلاء بإفادته في انفجار مرفأ بيروت وذلك في حال قرَّرَ المحقق العدلي طارق البيطار الاستماع إليه. وبموازاة ذلك، طلب المحقق العدلي الحصول على إذن ملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا الذي يُحسَب على رئيس الجمهورية من المجلس الأعلى للدفاع، وذلك بعد تقاذف للصلاحيات، خصوصاً على جهتي الرئاستَيْن الأولى ومجلس الوزراء، وسط خشية من حجب الإذن أيضاً.

وقرّرت نقابة المحامين في بيروت إعطاء الإذن لملاحقة النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، وهو ما فعلته نقابة المحامين في طرابلس شمال لبنان بالنسبة إلى فنيانوس، علماً أن هذه الخطوة ليست كافية لملاحقتهم. وتقدمت نقابة المحامين في بيروت وعدد من ضحايا تفجير مرفأ بيروت ("المّدعون")، في 2 أغسطس الحالي بدعوى مدنية بوجه شركة "سافارو"، الشركة الشاحنة للنترات، أمام المحكمة العدلية العليا في لندن، بهدف تحصيل حقوق المدّعين من تعويضات جرّاء امتناع الشركة المذكورة وأطراف آخرين عن اتخاذ أيّ إجراءات لتأمين أو التخلص من شحنة نترات الأمونيوم، ممّا أدّى إلى خسائر فادحة من مقتل وجرح وأضرار للمدّعين في انفجار مرفأ بيروت.

يتحدث المدير التنفيذي لـ"المفكرة القانونية" المحامي نزار صاغية، لـ"العربي الجديد"، عن ثلاثة عوائق كبيرة أساسية تحول دون الوصول إلى الحقيقة والعدالة، الجانب الأول يتمثّل في عدم جهوزية التركيبة القضائية أو النظام القضائي في لبنان، فكان الخيار بين محكمتين استثنائيتين، المحكمة العسكرية والمجلس العدلي، وهذه مشكلة باعتبار أن المفعول الكبير يكون لشخص المحقق العدلي الذي يعمل وحده بصعوبة فائقة وقراراته غير قابلة للاستئناف، مشيراً إلى أن الحقيقة بهذه الحالة تتوقف عند شخصٍ واحدٍ، ما يفتح الباب أمام طرح علامات استفهام عدة، فهل هو قادر على الوصول إلى الحقيقة ومواجهة كل الصعوبات؟ هل هو نزيه ومستقل عن كل الغايات للوصول إلى النتيجة؟

الجانب الثاني بحسب صاغية، يكمن في نظام الإفلات من العقاب القوي جداً في لبنان ويعتمد على وسائل كثيرة وأشكال مختلفة تصبّ في دائرة الحواجز التي توضع أمام العدالة، وأبرزها الحصانات سواء الواقعية أو الدستورية، فالأولى تتجلى مثلاً في تحويل مشتبه به إلى بطلٍ، وتحويل مدينة تفجرت في 4 أغسطس إلى مدينة تعلق فيها صوره وشعارات التمجيد ما يجعله بطلا تصعب محاسبته. ويقصد بذلك، اللواء إبراهيم المحسوب على "حركة أمل" و"حزب الله". أما الحصانة الدستورية، وفق صاغية، "هي ما نراه اليوم من مسرحيات تدخلنا في دهاليز عريضة مبنية بالجزء الأكبر منها على هرطقة قانونية، بينما يعتبرها المسؤولون من عدّة الشغل للوصول إلى عدم المحاسبة".

وعلى الجانب الثالث، يقول صاغية، "النقص في المعدات والوسائل التقنية التي يمكن للقاضي أن يلجأ اليها في التحقيق بقضايا بهذا الحجم، خصوصاً ربطاً بما تحتاجه من خبرات تقنية بالمتفجرات وتحليل الأرض وما إلى ذلك، وهي وسائل محدودة جداً لدى لبنان، ما يطرح سؤالاً ماذا يملك القاضي في يديه من وسائل تقنية للوصول إلى الحقيقة، حتى الخبرات الدولية ليست على المستوى في ظل عدم تزويد القضاء اللبناني بأي صور جوية لما حصل يوم الرابع من أغسطس".