محمود كلّم

صبرا وشاتيلا، هي مجزرة أذهلت العالم، أضيفت إلى مسلسل ذبح الفلسطينيين في تاريخهم. هي واحدة من أبشع المجازر في التاريخ وأبشع من أن يستوعبها العقل الإنساني. في صبرا وشاتيلا انتُهكت الأعراض، وحتى الرُضّع والأجنّة في بطون الحوامل والشيوخ كانوا من ضحايا المجزرة. مجزرة صبرا وشاتيلا هي صفحة دموية من صفحات التاريخ الصهيوني، فتاريخ الصهاينة هو تاريخ ملطخ بالدماء حافل بالمجازر والمذابح التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، وهي لم تكن الجريمة الأخيرة، فمسلسل المجازر لم ينتهِ ولا يزال مستمراً، من مجزرة إلى مجزرة.
تأتي الذكرى الرابعة والثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا في غياب صديق فلسطين ستيفانو كياريني ( Stefano Chiarini ) محرر صحيفة «المانيفيستو» الإيطالية ومنظم حملة التضامن مع صبرا وشاتيلا، الذي توفي بصورة مفاجئة في روما في 3/2/2007، إثر جلطة حادة بينما كان يداعب أحد أطفاله.
وتأتي هذه الذكرى كسابقاتها، وفود أجنبية تتزاحم بعيداً عن المخيم، يتزاحم على الصف الأول عدد من الشخصيات الفلسطينية وبعض رؤساء الجمعيات الأهلية التي نشأت وترعرعت في المخيم وفي غياب لافت للوفود العربية، مع أن الدم الذي سال في صبرا وشاتيلا له ذكرى وذاكرة، وأهل الضحايا بالانتظار قرب مدخل المقبرة الجماعية لشهداء المجزرة. وسوف يبدأ الاحتفال ككل عام، وتتوالى الكلمات المنددة والشاجبة والمستنكرة للمجزرة ولمرتكبيها. ثم تغادر الوفود الأجنبية المكان يرافقها عدد من القادة الفلسطينيين لاستضافتهم في مطاعم العاصمة بيروت. أما من بقي حياً من أهل الضحايا فعليهم العودة إلى أزقة المخيم الضيقة وإلى البيوت المتداخلة التي لا تدخلها الشمس حتى في وسط النهار، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خدمات صحية، وفي المخيم تحتاج إلى فترة حتى تستعيد إحساسك باللون والصورة.
المجـزرة.. جرح لا يندمل
قبل رحيل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية عن بيروت، أعطى الأمريكيون ضمانات خطية عبر مبعوثهم فيليب حبيب بعدم دخول القوات الصهيونية إلى بيروت الغربية، إلا أنّ هذه الضمانات ذهبت أدراج الرياح في أول اختبار جدّي لها. وعصر يوم الثلاثاء الرابع عشر من أيلول 1982، تأكد أن بشير الجميّل الرئيس اللبناني المنتخب قد اغتيل في مقرّ حزب الكتائب بالأشرفية، وفي اليوم التالي، وقبل يوم واحد من حدوث تلك الجريمة، انسحبت كتيبة الجيش الايطالي التي كانت تحمي منطقة حيّ عرسان ومحيط السفارة الكويتية في ظروف غامضة، وبعد ذلك مباشرة اجتاحت القوات الصهيونية أحياء المنطقة الغربية من العاصمة بيروت، ولما وصلت هذه القوات الى مستديرة شاتيلا أحكمت الطوق على المخيم وأغلقت جميع مداخله، وظل سكان المخيم يعيشون في حالة ترقب للمصير المجهول الذي ينتظرهم.
يومها وقف شارون في مكان قريب ومرتفع ومطلّ على شارع المجزرة، حيث مارس بعض الضباط هوايتهم في مراقبة ما يجري تحت مئات القنابل المضيئة في تلك الليلة المشؤومة، قرب السفارة الكويتية المرتفعة والقريبة من مكان المجزرة والمطلة عليه.
الخميس السادس عشر من أيلول 1982 حوالي الساعة الخامسة والنصف مساءً بدأ القتلة دخول حيّ عرسان والحي الغربي لمخيم شاتيلا كالذئاب المُفترسة، وأجواء الرعب ملأت المخيم، وسرعان ما شعر سكانه بأن شيئاً ما يحدث.
الناجية من المجزرة (سمر قاسم أبو حرب) روت لي بعض ما شاهدته، «يوم المجزرة عصراً كنت برفقة والدي قرب مستشفى عكا، شاهدت دبابات إسرائيلية وناقلات جنود في محيط السفارة الكويتية، كانوا يأتون من جهة الأوزاعي، وبدأوا يدخلون مباشرة إلى حيّ عرسان ونادي الكرمل الرياضي، فهربنا الى مخيم شاتيلا، مجموعة أخرى نزلت في زاروب الدوخي ومن المدينة الرياضية ومن زاروب بيت أبو فوزي شحرور، نحن دخلنا إلى منزلنا، قتلوا خالي سعيد العايدي بالرصاص أمام زوجته وأولاده. قتلوا خالي موسى العايدي وقطعوا رأسه وعلقوه على عمود أمام منزله، يوم الجمعة صباحاً دخل المسلحون إلى داخل منزلنا وأخرجونا منه، ثم أخذوا المال والمصاغ، وعندما بدأوا يتقاسمونها تشاجروا على الذهب وسحبوا السلاح على بعضهم. ثم أخذونا الى حيّ عرسان، وعلى الطريق شاهدنا جثثاً كثيرة. صرنا مثل المجانين..  وشاهدت الحاج أبو سلمان (حسين محمود زينة) مذبوحاً وهو راكب على حماره وكان ينزف دماً من رقبته، كان لا يزال حياً، القتلة كانوا يتفرّجون عليه ويضحكون.. وعندما وصلنا إلى المدينة الرياضية شاهدت عشرات الجثث للرجال والأطفال والنساء ربما قتلوا قبل قليل. ثم بدأوا بإطلاق الرصاص علينا، لا أعرف كيف بقينا أحياء...»، ويمكن اعتبار ليلة الخميس السادس عشر من أيلول 1982 ليلة القضاء على العائلات في الملاجئ ( ملجأ أبو ياسر وملجأ آل المقداد).
صباح يوم الجمعة 17 أيلول 1982 كان يوم اقتحام مستشفى عكا، قتلوا الأطباء في المستشفى (دكتور علي عثمان أحمد، دكتور سامي الخطيب)، عذبوا الممرضات قبل قتلهن (إنتصار إسماعيل)، أعدموا المسنين بلا رحمة (توفيق محسن أبو عناد).
وفي مثل هذا اليوم قبل 34 عاماً وقفت آمنة حسن بنات (أم عزيز الديراوي) تودّع أولادها الأربعة: (عزيز، إبراهيم، منصور، أحمد) أمام السفارة الكويتية جنوب غرب مخيم شاتيلا، حيث تم اقتيادهم على ظهر شاحنة ولم تعد تعرف أي شيء عن مصيرهم، ورغم فقدها لمعظم بصرها، ما زالت تواصل البكاء على أحبائها الأربعة، وما زالت تحتفظ بكتبهم المدرسية، وثيابهم، وأغراضهم الخاصة، على أمل عودتهم.
عصر يوم الجمعة 17 أيلول 1982 وصل القتلة إلى مستشفى غزة الواقع بمحلة صبرا شمال مخيم شاتيلا. كانت القوات الصهيونية تدعو الناس إلى الاستسلام عبر مكبرات الصوت، واستمروا على هذا المنوال حتى صباح السبت 18 أيلول 1982، بعض الناس ذهب وسلّم نفسه، والبعض الآخر رفض. ومن الذين رفضوا الذهاب خالد إبراهيم العمري (21 عاماً) الذي كان غارقاً في نومه صباح ذلك اليوم، إلا أن إصرار والدته (حسنية عمر عزّو) جعله يستيقظ ويمشي معها ومع كثيرين حتى تمثال (أبو حسن سلامة) جنوب مخيم شاتيلا، وانقطعت أخباره. وعندما زرتها عام 2006 في منزلها بمحلة صبرا قالت لي ندمت عمري على فعلتي، ابني كان نائماً ولا يودّ الذهاب، أنا التي أصررت عليه، كان خالد قد عقد قرانه وينوي الزواج، كنت قد جهزت ثياب الزفاف له ولخطيبته.
غادر القتلة المنطقة بعدما زرعوا جثث الأطفال والنساء والرجال والشيوخ في كل حيّ من أحياء صبرا وشاتيلا، بقروا بطون الحوامل (أمال أبو أرديني، زينب إدلبي)، وبعدما سحبوا الأجنة من أرحام أمهاتهم. غادر القتلة المنطقة بعد عملية قتل جماعي لأكثر من 1200 من الأرواح البريئة.
مجزرة صبرا وشاتيلا التي مهما كتب عنها ومهما سيكتب، سوف تبقى نبعاً لآلاف القصص المأساوية وستظل جرحاً يأبى أن يندمل.
محاكمة المجرمين
مجزرة صبرا وشاتيلا هي جريمة ضد الإنسانية يجب محاكمة مرتكبيها أمام محاكم الجزاء الدولية لمجرمي الحرب، ولكنّ المجتمع الدولي طوى صفحتها ونسي ضحاياها ولم يحاكم المجرمين القتلة رغم أنه حاكم عدداً كبيراً من زعماء العالم السابقين، ثم توقف أمام محاكمة الإرهابي المجرم أرييل شارون وبقية المتهمين في الجريمة.. لماذا؟!. «لأنه ما في عدل بالدنيا والحق للقوي..» كما قالت الناجية من المجزرة سنيّة محمد رمضان (أم جهاد)، وهذا ليس مهماً، «المهم أن لا ننسى نحن دم شهدائنا المسفوح في صبرا وشاتيلا.. والمهم أيضاً أن يظل شهداء صبرا وشاتيلا حافزاً لنا لمواصلة الكفاح حتى تحرير ترابنا الوطني السليب..» كما قال الناجي من المجزرة عصام أبو دهيس.